الملحق الثقافي- سلام الفاضل :
يُعدّ أدب الرسائل شكلاً من أشكال الفنون الأدبية التي عرفها العرب فيما مضى، فأبدعوا في تدبيجها وتزويقها أيما إبداع، ورصفوا مفرداتها ضمن محسنات بديعية أبانت قدراتهم اللغوية الفائقة في التعبير عن المعاني التي حوتها الرسالة، مبتغين في ذلك التدليل على سعة معارفهم، وثراء لغتهم، وحسن سبكهم، وقدراتهم الفائقة في أنماط البديع والبيان المتعددة.
وقد اشتهر هذا الأدب بين العرب قديماً، فوضعت فيه كثير من الرسائل التي طالت شهرتها الآفاق، وما زالت حتى اليوم أساساً أدبياً يُعتد به، ويُستند إليه عند الحديث عن هذا النموذج الفني الجمالي الذي برع الأدباء والكتّاب في سبك بيانه، ونظم محتواه. وللوقوف على أهمية أدب الرسائل، وأهم مميزاته، وأشهر رسائله وكتّابه تحدثنا إلى الدكتور محمد قاسم الأستاذ في كلية الآداب – جامعة دمشق، ومدير إحياء التراث العربي في الهيئة العامة السورية للكتاب، الذي أوضح لنا بداية: «إن الرسائل في التراث العربي هي وجه من وجوه الإبداع الفني النثري الذي هو صنو الشعر». وأردف: «يحاول الأديب أو الكاتب في هذه الرسائل أن يدلل على اقتداره اللغوي، وسعة حفظه، وغزارة مادته اللغوية، وهو يتأتى في ذلك من وجوه الصناعة والمحسنات البديعية؛ كما أنه يسدد معانيه بقوة وحذق ينبئان بسعة اطلاعه وعمق معرفته…». مشيراً إلى أن كثيراً من الناس ترى في أدب الرسائل أدب السعة، حيث يتفسح فيه الأديب، ويُعمل قلمه، ويجيل خواطره كيفما شاء، بخلاف الشعر الذي هو أدب الضيق.
وتابع قاسم حديثه متناولاً أنواع النثر في التراث العربي، وأشهر الأغراض التي وضعت فيها الرسائل قائلاً: «يتوزع النثر في تراثنا العربي بين فن المقامة، وفن الرسائل، وفن الخطب… وأغراض الرسائل في هذا التراث كانت مختلفة كأغراض الشعر؛ فبعضها كان يأتي تحت باب اللوم والعتاب بين الأصدقاء، أو ما يسمى أدب الإخوانيات، ومنها ما كان يحمل رسالة، أو يؤدي وظيفة تبليغية… وما إلى ذلك».
أما عن أشهر الرسائل، وأبرز كتّابها في الأدب العربي فقد رأى قاسم: «إن بعض الرسائل التي وضعت في تراثنا امتازت بقوة صناعتها اللفظية، وعمق معانيها كرسائل بديع الزمان الهمذاني التي أوفى فيها على القول بعلو ديباجتها، ونمطها اللغوي العالي، وإشاراتها المرجعية التي أضفاها البديع على رسالته… في حين أن بعض هذه الرسائل الآخر لا يفطن لها إلا المتشبع بخفايا وخبايا التراث، ومنها رسائل أبي إسحاق الصابي التي تُعدّ نماذج عالية، وثمة رسائل أخرى في الطب كرسالة الصاحب بن عباد التي وضعها في تحليل بعض المقولات الطبية الموروثة عن اليونان، إلى جانب الرسالة الجدية، والرسالة الهزلية لابن زيدون اللتين تُعدّان من أكثر الرسائل شهرةً في أدبنا العربي…».
ليؤكد في ختام حديثه أن الرسائل: «أدت وظيفة فنية، إذ أشبعت الحاجة عند أولئك الكتّاب إلى إثبات الإبداع والاقتدار، ثم قامت بوظائف تبليغية مختلفة بحسب منتجها، والمتلقي لها».
ويمكن القول أخيراً بالاستناد إلى ما سبق إن هذا الأدب حظي بمكانة مرموقة، وشكّل ظاهرة فنية أبدع فيها منتجوها رسائل خلّدت أسماءهم، وحفظت معارفهم، وشهدت لهم بالمقدرات اللغوية الفذّة.
العدد 1102 – 5-7-2022