الملحق الثقافي- حبيب ابراهيم:
شكل أدب الرسائل عبر العصور واحة جميلة متنوعة المصادر، غنية المواضيع، فيها سحر الكلمة وشجى الحرف، قدمت صوراً خفية عن حياة هذا الأديب أوذاك، تلك الرسائل المتداولة شكلت من خلال أهدافها ومراميها ومواضيعها التي تتمحور حول قضايا أدبية أو شخصية أو اجتماعية أو إنسانية قيمة مضافة للأدب والإبداع .. وبلا أدنى شك حملت تلك الرسائل لواعج نفسية ومناجاة ذاتية وعواطف صادقة حتى لو كانت بين أناس عاديين، عكست ما يجول في الخاطر والوجدان من أحاسيس وحنين وألم فراق نتيجة الغربة والبعد والهجرة، هذا النوع من الكتابات تلقى قبولاً وتشوقاً من قبل القراء لأنها تضفي جمالية فريدة في الكلمة والصورة حيث تجمع بين الشعر والنثر فتجعل من نص الرسالة فسحة رحبة للتعبير بعيداًعن التبويب والتأطير في أجناس الأدب المعروفة من شعر وقصة ورواية .. يعكس أدب الرسائل اهتمام الأدباء ومتانة العلاقة فيما بينهم، أو بينهم وبين الآخرين، هذه المراسلات كانت مزدهرة مع جيل الرواد من أدباء وشعراء وكتاب، عكست هواجسهم النفسية والاجتماعية والإنسانية، وعملت على توطيد العلاقات الاجتماعية وتقوية وشائج التواصل عبر رسائل تفيض رقة وعذوبة، ولم يقتصر أدب الرسائل على العصر الحديث، إنما وجد في كل العصور، وكانت الرسائل إحدى أهم وسائل التواصل والاتصال، ولعل أبرز من كتب في هذا الجانب أبي العلاء المعري في العصر العباسي، فجاءت (رسالة الغفران ) والتي تعد من أهم ما كتبه المعري، إلى جانب سقط الزند، اللزوميات، الفصول والغايات …و(رسالة الغفران هي رسالة كتبها أبو العلاء إلى ابن القارح جواباً على رسالة بعث بها إليه يذكر فيها شوقه إلى لقائه ويسأله عن عدة مسائل في موضوعات شتى .
أما في العصر الحديث فقد برز في العالم العربي عدد غير قليل ممن كتب الرسائل بلغة شفيفة فيها جوانب فنية وجمالية، لا تخلو أحياناًمن السردية أو المباشرة أو الحوار وغالباً تجمع بين الشعر بصوره وإدهاشه وجذالته وبين النثر وحيويته ووصفه لتفاصيل دقيقة حياتية، اجتماعية، إنسانية … ولعل أبرز تلك الكتابات والمراسلات ما كان بين الشاعر ابراهيم طوقان الذي كان يقيم في بيروت وشقيقته الشاعرة فدوى طوقان التي كانت تقيم في نابلس ،حيث شكلت الرسائل المتبادلة أحد أهم الوسائل التي جعلت من فدوى شاعرة كبيرة لها حضورها المميز في المشهد الشعري في الصحف والمجلات الأدبية التي كانت تصدر آنذاك .. كما شكلت الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران ومي زيادة إضافات لها وزنها في إبداعات الكاتبين الكبيرين من حيث الكلمة الصادقة المختارة بعناية ودقة وبين اللحن الشجي والأشواق الدفاقة مما جعلهما من رواد النهضة الفكرية في الوطن العربي. ويجب ألا ننسى المراسلات الهامة والمهمة بين الأديب الفلسطيني غسان كنفاني صاحب (حق لا يموت ) والكاتبة السورية غادة السمان، ورسائل عميد الأدب العربي طه خسين مع نخبة من أدباء ومفكري عصره مثل د .عبد الوهاب عزام، أحمد أمين، مصطفى النحاس، وغيرهم .. هذه الرسائل أضحت جزءاً مهماً من حركة الفكر والإبداع ورفدت المكتبة العربية -رغم ندرة هذا النوع من الكتب – بكتب جد هامة ولها حضورها اللافت لدى القارىء العربي.
وغياب هذه الظاهرة لدى الأدباء والمبدعين في أيامنا هذه جاء بسبب ثورة الاتصالات وتفجر المعرفة حيث أصبح العالم اليوم قرية صغيرة ويمكن لأي قارىء التواصل بكل يسر وسهولة وسرعة للوصول إلى المعلومة والمعرفة .. لقد أتاحت ثورة المعلوماتية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى تراجع كتابة الرسائل المعهودة من خلال الورقة والقلم وساعي البريد و… ليحل مكانها الرسائل النصية القصيرة، أو رسائل المسنجر أو الواتس اب، وغيرها من مسميات حديثة، هذا الواقع دفع بالكثير من الأدباء والمبدعين إلى استخدام هذه التقنيات الحديثة وربما يكون هناك بعض الرسائل والخطابات والآراء والنقاشات عبر الرسائل الالكترونية بين بعض الأدباء ،ستشكل لاحقاً قيمة أدبية مضافة لإبداعاتهم ومنجزهم الفكري والمعرفي قد يرى النور من خلال كتاب ورقي فيه رائحة الحبر وجمر الانتظار … قولاً واحداً يظل أدب الرسائل الأكثر شغفاً وجذباً، الأكثر رقة وعذوبة، فيه التنوع والغنى، فيه الشوق والحنين، فيه النجوى والمناجاة، فيه نبض القلوب التي تفتح نوافذها للنور والأمل والحياة.
العدد 1102 – 5-7-2022