الملحق الثقافي-دلال ابراهيم:
مما لا شك فيه أن المستقبل والماضي يتشابهان بصورة غريبة في أدب ما بات يعرف اليوم باسم ( أدب ما بعد القيامة ) كما لو أنه محكوم على الإنسانية العودة إلى العهد ما قبل الصناعي. وقد بدأ ظهور هذا النوع من الأدب مع رواية ( الرجل الأخير ) للكاتبة ماري شيلي، والصادرة في عام ( 1826 ) تسرد الرواية هلاك أعداد هائلة من البشرية بسبب مرض الطاعون، الأمر الذي تسبب في نشوب حرب دائمة. وهكذا بقي الوباء هو العنصر المسبب للهلاك في خيال ما بعد القيامة لغاية اختراع القنبلة الذرية. ولكن وخلال الفترة الممتدة ما بين اختراع الآلة البخارية عام 1784 وبداية الحرب الباردة، لم تكن الرؤى المخيمة على عالم الخيال العلمي هي رؤى عن نهاية العالم، وإنما هي رؤى- حسبما ورد في رواية ( نحن الآخرون- الأفضل في العالم ) تصف حضارات تكنولوجية تتطور نحو نظام تحكم اجتماعي مطلق. ومع إلقاء القنبلة الذرية فوق مدينة هيروشيما، عادت من جديد لتحيا تلك الفكرة التي تتحدث عن مستقبل معدم ووحشي. هذا وترتكز معظم روايات الخيال العلمي على تخيل شكل من الحاضر المستفحل، وذلك من خلال الجمع بين مختلف التقنيات الموجودة والاستقراء من خلالهم، لكي يشيروا عبر ذلك إلى الآثار البسيكولوجية والسياسية لهذا الحاضر. بينما نحت رواية ما بعد القيامة على نحو مخالف كلياً عن ذلك. لتعمل على تحرير العنف الكامن داخل هذه التكنولوجيا، وفتح احتمالات اساءة استخدامها ( وعدوها الطبيعة ) بغية خلق عالم متغير، ميزته الاساسية هي عدم القلق من التكنولوجيا. وما على البشرية المجبولة بالآلم والبربرية سوى اللحاق بركب تلك التكنولوجيا.
ويتسائل تشاد هارباش الكاتب والناقد الأميركي قائلاً :» ماذا سيحدث لو لم نكن نعيش في عالم مكتظ بالسكان ومشبع للتخمة بالتكنولوجيا، وحيث التنقل بالمشي يعتبر أمراً غريباً وشاذاً، وحيث أن الدولة هي الوحيدة المخولة استخدام العنف؟»
لفترة بعيدة كان هذا العالم مجهولاً بالنسبة للأميركيين والأوروبيين. كانوا في القرن التاسع عشر يعيشون في ظل عصر ما قبل البترول، وكانوا ينتمون إلى التاريخ، كما صار ينتمي إليه إنسان القرن العشرين، مع حصوله على النفط بأسعار رخيصة وقدرته على التنبؤ المناخي. والآن وقد استنفذنا ما يقرب من نصف احتياطي النفط الموجود، ولم يؤثر هذا على توازن الكوكب، ولكن يخشى أن يكون مستقبلنا مثل ماضينا، لا بترول فيه ولا تقانة تقريباً، وحتى ولا الكثير من الضمانات الاجتماعية المفيدة لنا. وبالتالي يخشى أن تصبح الرواية التي تدور حول المستقبل الكارثي البديل عن الرواية التاريخية.
في عام 2007 صدرت رواية Jamestown للكاتب ماتيو شارب. وتنطلق الرواية من بداية سردها للأحداث من صورة رجال مدججين بالسلاح يغادرون مانهاتن بواسطة حافلة في أعقاب انهيار بناء كريسلر وخوض حرب مع حي بروكلين، بهدف السيطرة على المصادر الطبيعية ، والتي فقدها الطرفان على حد سواء. فيما خلفت الحرب والانهيار البيئي، خارج حدود المدينة، عالماً مفككاً وقد أبيد نصفه. وينطلق هؤلاء الرجال في حملة بحث ضالة عن الوقود، لتنتهي بهم ضالتهم إلى فيرجينيا، إلى مستعمرة غريبة، تسكنها قبيلة هندية شرسة من ( الهنود ) تعيش في ظل نوع من الرفاهية ، ويبدو عليها أنها متعددة الاثنيات والأعراق، وقد تبنت هذه القبيلة العادات الأميركية- الهندية، بغية المحافظة على بقائها واستمراريتها. والشخص الأكثر شعبية وجاذبية في هذه القبيلة هي فتاة اسمها ( يوكاهوتناس) أما زعيم أفراد مانهاتن فكان يدعى جون سميث، أي هنا المستقبل هو الماضي.
وينطلق الكتاب من خلال مبدأ مساواة الماضي مع المستقبل، دون الخروج من الحاضر. ومن العبث قراءة رواية Jamestown بغية معرفة كيف سيكون شكل غدنا، أو كيف كان شكل المستعمرة في عام 1607 وكذلك من العبث البحث فيها عن أي حدس عن هذا المستقبل. أي على نقيض رواية ( ضجيج الخلف ) للكاتب دون ديليلو ( 1985 ) ورواية ( الأسماء عام 1982 ) اللتان تبدوان كما لو كانت هواجس لاعتداءات 11 ايلول. ومع ذلك فإن رواية Jamestown كانت صادقة في الاعتراف باستحالة انجاز المهمة الموكلة إليها: أي وصف مستقبل لن نعرف كنهه إلا بعد العيش فيه.
في الواقع إن الكاتب الوحيد الذي أخذ على عاتقه مهمة كتابة سيناريو غدنا الكارثي، هو الكاتب جيمس هوارد كنستلر، الذي كتب سبع روايات أشهرها رواية ( نهاية البترول، التحدي الحقيقي للقرن الواحد والعشرين ) وهو كتاب يدور حول الذروة النفطية وعواقبها. وفي نهاية كتابه يستعرض كنستلر المناطق الأميركية واحدة تلو الأخرى، ويَقّيم مدى فرص بقائهم واستمراريتهم في الحياة بعد انتهاء العصر النفطي. ومن وجهة نظر الكاتب، يعتبر الانطلاق من الجنوب الأميركي لبدء حياة جديدة سيئاً، لأن المرء لا يمكنه التنقل فيه إلا عبر سيارة، وحينها لن يكون هناك سيارات، ناهيك عن التوترات العرقية ووجود سكان مدججين بالسلاح. وكذلك الحال بالنسبة للجنوب الغربي، وهنا معاناتهم هي من شح مياه الشرب والري، كما ولا توجد فيها طاقة رخيصة الثمن من أجل تشغيل أجهزة التكييف. ويعتبر كنستلر أن المدن الصغيرة في شمال شرق والشمال والغرب الأوسط لديها فرص أكبر للمحافظة على مجتمع مقبول نوعاً ما وصالحاً للعيش ولو أنه سيضطر يرزح في ظل حرارة شديدة ناجمة عن الاحتباس الحراري. وهنا سوف يمتلك السكان أراض صالحة للزراعة فيما لا زالوا يحتفظون بذاكرتهم بطريقة العمل فيها، وأيضاً يحتفظون ببقايا بنى تحتية، يعود تاريخها إلى ما قبل العصر النفطي. ونظراً لكونها بعيدة عن المراكز الحضرية الكبرى، والتي من المؤكد أنها سوف تنهار، يرى كنستلر وفق تحليله، أن هذه المدن ستكون بمنأى عن الجحافل الحضرية، والتي سوف تشتبك مع بعضها البعض، حال نضوب مضخات الوقود.
وفي رواية ( عالم مصنوع مادياً ) يحول كنستلر هذا السيناريو إلى رواية. ولكن نحن الآن في حضرة عام 2040 على وجه التقريب ، فقد أصبح العالم في حالة فوضى مستفحلة بسبب نضوب الموارد البترولية، بينما أصابت القنابل النووية كل من واشنطن ولوس انجلوس، وربما غيرها من المدن، ومن الصعب أن نعرف الأخبار بسبب عدم وجود شبكة انترنيت أو تلفزيون أو هاتف أو صحف، بالإضافة إلى أن الحكومة الأميركية ليس لديها سلطة فعالة. وبسبب عدم وجود آلات لصنع الأدوية تتفشى أنواع من الأنفلونزا وأمراض أخرى ويَهلك ملايين الأشخاص وربما مليارات البشر بسببها. أما الحياة بعد تلك الكارثة فترتكز على الزراعة والصيد وتربية الدجاج والأرانب.
ورواية ( عالم مصنوع مادياً ) تصور ما يمكن أن يكون عليه غدنا. وفي ظل فقدان الأمن والفوضى، لن تعد القنابل الذرية أو الأوبئة هي الأكثر ترويعاً، وإنما يصبح الخوف من المياه الملوثة ومن فكرة اقتلاع سن من دون تخدير. وإمكانية أن تقتل على يد مختل في أي لحظة وهو يعلم أنه سوف يفلت من العقاب لعدم وجود سجون.
وضمن روايات ما بعد القيامة الحالية تأتي رواية ( الطريق ) في سلم الشهرة والتي تحولت إلى فيلم للكاتب كورماك مكارثي الصادرة عام 2006. لا أحد في الرواية يتكلم ، وعندما يتكلم أحد ما، فهذا لكي يقول ( موافق ) وهو متجهم الوجه. وقد نهل مكارثي من الماضي الأميركي لكي يعثر على عوالم قبلية متعطشة للدماء. وفيها نعثر لأول مرة على العنصر المناهض للحداثة في صيرورة المستقبل الأميركي. ومن الصعب إدراك سبب هذا التغيير، ولكن نظن أن أحداث 11 أيلول هي وراء هذا التغيير. إن القيامة في رواية الطريق هي حرب نووية شاملة.
بطل رواية الطريق هو من النوع البشري القادر على الإمساك بعشرات السنين عقب الحريق، وهذا ما فعله. في بداية الرواية لا أثر للكائنات الحية غير البشرية، فقد هلك جميعها، ورماد الشتاء النووي يحجب قرص الشمس، زوجة البطل انتحرت، أما ابنه فقد أصبح أشقر وضعيفاً، ونغفر له افتقاده لحس الدعابة بسبب تضوره من الجوع. فهو لم يتعرف على عالم سوى عالم مدمر وملوث. الرجل وابنه يمشون باتجاه الجنوب إلى البحر، ليس لأن ثمة شيئاً سيجدونه هناك( فالبحر قد مات أيضاً ) وإنما لأن رواية ما بعد القيامة الجديدة أبطالها بحاجة إلى وجهة يتجهون إليها، والرحلة البحرية الطويلة هي في ظاهر الأمر عنصر ضروري لمكونات الرواية. واالناجون الآخرون في رواية الطريق حافظوا على بقائهم من خلال انتمائهم لعصابات آكلة لحوم البشر. ولكن الوالد وابنه، ومن مبدأ أخلاقي ابتعدوا عن أكل لحوم البشر. وأسطورتهم في القوة هي حملهم للسلاح، ولكنهم يفتقدون لأي خيال. الأب وابنه يعثرون على بضعة نقاط زيت محرك يوقدون بها قنديلهم، إنهم آخر نماذج الإنسان النفطي. وتبقى رواية الطريق أكثر ألفة لنا بما تحمله من صور ودلالات. ويلخص لنا مكارثي المستقبل حيث نهاية الطبيعة يعني نهاية الفن والشخصيات والحوار والسياسة وتعقيدات العلاقات الاجتماعية. تكمن المشكلة في رواية ما بعد القيامة في تمييزها الوهمي بين ما نفعله وما سنفعله يوماً ما. إن الرواية لا يمكنها الاعتماد سوى على اللحظة الراهنة. وفي وصفها للكوارث ليس ثمة ما هو غريب أو افتراضي.
ترجمة بتصرف للكاتب والناقد الأميركي تشاد هارباش
العدد 1104- 26-7-2022