الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس :
ليست أهمّيّة اللغة العربيّة مدار نقاش، ولا ضرورة الاهتمام بها والغيرة عليها مثار تساؤل؛ وهذا لا يتّصل بالمناهج المقرّرة، ولا بالمهنة، التي تتطلّب إتقاناً وخبرة وممارسة مستمرّة أو متقطّعة، ولا بالمناسبات اللغويّة الدوريّة أو الحوليّة، المحلّيّة أو القوميّة أو العالميّة، ولا بالباحثين في شؤون اللغة، ولا بالأدباء المبدعين في فنون الكتابة المتنوّعة؛ مع أهمّيّة كلّ منهم بمقدار جهده ورغبته ومسؤوليّته… فحسب؛ بل هو الحرص على عنصر مهمّ من العناصر، التي تدعم الروابط والصلات بين الماضي؛ بكلّ ما يحْمِلُهُ ويُحَمَّلُهُ، ويتطلّب البحثَ والتنقيةَ، وبين أبناء الأمّة على امتداد الحاضر والمستقبل؛ وتعزّزُ الانتماء القوميّ والوطنيّ، هذا الذي يتعرّض لمحاولات الهتك والتخريب باطّراد؛ وتُكامِلُ الشخصيّة، التي تتغنّى باللغة، وتتنعّم بها، وتتبادل مختلف المعارف والمعلومات والأخبار والمسموعات والنوادر والطرائف والحكايات والحكم والتجارب والأمثال والأقوال والأحاديث والآيات والأسفار؛ ولا سيّما منها ما تمّت صياغته شعراً أو نثراً معتزّا بهما.
وكما هي الحال في أيّ عنصر ربط أو وسيلة تواشج، فإنّ التعامل المتواصل باللغة بمختلف أشكاله، والتداول بمفرداتها المتعدّدة، والتعبير بصياغاتها المتنوّعة، وترديد مصطلحاتها؛ ومن الضروريّ أن يكون كلّ ذلك صحيح النبرة والكتابة والتحريك والتسكين والتشديد… كلّ هذا سيقوّيّ هذه اللغة، ويسهم في حفظها وصونها. لكنّ ما ينمّيها؛ هي الغنيّة بكنوزها المقدّسة والموروثة، وما يزيد في غناها، تجدّدُها المفروض منطقيّاً وعلوماً ومخترعات واكتشافات، وتعدّد مصادر ذلك، وتعرّضها للمنافسة المشروعة والظالمة، الطبيعيّة والمهنيّة.
وليست الحاجة إلى الاستعمال وحدها هي الحاكمة في قضيّة التجديد والتجدّد؛ مع حضور ما لم يكن موجوداً أو معروفاً لدى أبنائها؛ ولا سيّما بعد ازدياد التواصل مع الخارج، بكلّ أنواع هذا التواصل، العلميّة والتجاريّة، وازدياد التفكير والانشغال بكثير من الجوانب والمجالات؛ بل إن ّهناك ضرورة بنيويّة، وعوامل ذاتيّة في اللغة والناطقين بها، تستوجب مثل هذا وذاك، ومن الطبيعيّ أن يكون التجدّد الذاتيّ صدى لنتاج داخليّ في البيئة الناطقة باللغة، أو في المشتغلين بها، أو منقول من لغات أخرى، باختصاصات، ودراسات متوسّطة أو عليا ممنهجة ومطلوبة ومرغوبة.
وللأسف لا تملك البيئة العربية كثيراً من الاختراعات والاكتشافات المادّية والمعرفيّة، الملموسة والافتراضيّة؛ بينما تحتشد بيئات أخرى بمثل هذا النتاج، وتنشغل بأفكار وأبحاث وتجارب… وليس هناك من مجال عصيّ أو ممنوع، في مختلف الشؤون والاهتمامات؛ فيما يكاد يقتصر اهتمامنا بالبحوث القوليّة أو اللغويّة!
ولمّا كان بعض أبنائنا يعملون في تلك البيئات، ويخوضون في مفاهيم ونظريّات، ويتداولون تعابير ومصطلحات، وقد يكون لهم باع فيها، لكن للأسف يتمّ ذلك بلغات أخرى، ونحتاج إليها لدى استيراد مسمّياتها ومفهوماتها، واستعمال الأدوات والوسائل لزوم العمل والاستثمار والاستهلاك.
فلا بدّ؛ نتيجة ازدياد الألفاظ والكلمات والتسميات والألقاب الغريبة، من تعريبها أو استخدام بدائل منها، وهذا ليس ترفاً أو نافلاً؛ بل هو حاجة وسبيل إلى يُسر التواصل والتعامل، وحفاظ على اللغة من النسيان، وتجديد لها، وتمكين لمواجهة مستجدّات العصر الحديث المتلاحقة والمتداخلة والمتشظّية؛ والمحاولات المغرضة لتشويه اللسان، ومن ثمّ الشخصيّة، وللتعمية وتكريس التبعيّة والاستسلام لما هو وارد غزواً أو مسايرة.
فلا بدّ، إذاً، من البحث والتفكير في آليّات القيام بالتطوير والتجديد والتعريب، والجهات التي تقوم بها. وإذا ما كان للجامعات والمعاهد الرسميّة والخاصّة عمل كبير فيه، فإنّ للجهود الذاتيّة، التي قد يبادر بها بعض الأشخاص الغيورين والجادّين.. مكان أيضاً؛ مع أنّ ذلك يبقى محدوداً؛ في ظلّ الكمّ الكبير من الموارد والمصادر والمستجدّات البشريّة والمادّيّة.. وهناك مؤسّسات يفترض أن تكون متخصّصة في هذا الأمر، نسمع بذكرها، ونقرأ عنها أحياناً ليست كثيرة؛ هي «مجامع اللغة العربيّة»، التي تنتشر في بعض العواصم والحواضر العربيّة، كمجمع اللغة العربيّة في دمشق، والآخر في القاهرة، والثالث في بغداد وسواها. لكنّ عملها للأسف، يبقى بعيداً عن الإعلام والإعلان، وقليلاً ما يؤتى على ذكر ما تمّ تعريبه، وما تمّت إجازة استخدامه من الكلمات العامّيّة والأخطاء الشائعة، التي تتردّد حتّى على ألسنة المختصّين، من دون تأكيد أو توثيق. وغنيّ عن القول إنّ استمرار ممارسة اللغة شفويّاً وكتابيّاً، يسهم في بقائها حيّة، ولا بدّ من قوننة بعض الألفاظ والتسميات قيد التداول، حتّى تأخذ مشروعيّتها من مثل هذه المؤسّسات المتخصّصة.
ولعلّ عملنا في قطاعات ثقافيّة، جعلنا نتعرّف إلى بعض العاملين في مجمع لغويّ، وبعض نتاجاته أو قراراته، ولكن بطرق شخصيّة ومحدودة جدّاً؛ فيما تتّسم الإشارة إليها بكلّ أسف بشيء من السخرية، مع ترديد بعض ما قيل إنّها أبدعته: «الشاطر والمشطور والكامخ بينهما»!؛ تعريباً للـ»سندويشة»؛ كما يُزعَم! ولن تجد من يؤكّد هذا الأمر وسواه، أو يسوّغه، ويسوّقه.
وإذا ما حاولنا البحث، وقد حاول بعضنا من المهتمّين باللغة، العاشقين لها، المبحرين في محيطاتها، فإنّ المحصّلة تبدو ضئيلة، ومشتّتة، وغير يقينيّة؛ والسبب في هذا عدم وجود نشرات دوريّة، أو مجلّات متخصّصة، تُعنى بهذا الجانب المحدّد والمهمّ والمتّصل؛ حسب علمنا، أو عدم حضورها بين أيدينا وقت الحاجة إليها، وما من أخبار عن الاجتماعات الدوريّة والعارضة لهذه المجامع، ولا عن الخطوات المتّخذة في هذا الشأن اللغويّ أو ذاك، وما نتج أو ينتج عنها من كلمات مُجَدْوَلَة ومقترنة بأخرى، تمّ استبدالها، أو تثبيتها في سلامة النطق والاستعمال الفصيح، من قبل هذا المجمع اللغويّ أو ذاك؛ فلماذا لا يحدث مثل هذا؟! ولماذا لا يطالَب به ممّن هم مسؤولون فيه وعنه، ولا نشكّ أو نشكّك في قدراتهم ولا في نواياهم؟! وإن كان موجوداً ولا نسمع به؛ فتلك مشكلة كبيرة؛ أمّا إن كان غير موجود أصلاً، فالمصيبة أمرّ وأدهى! فبأيّ إيقاع يسير العمل؟! وبإشراف من، وبمشاركة من؟! وكيف يمكن أن يماشي التسارعَ المطّرد في مختلف العلوم والمعارف؟!
ومتى يمكن القول بيقين: إنّ اللغة العربيّة تتجدّد، بما يدخل إليها من مشتقّات وأسماء ومصطلحات خاصّة بها، وسلسة وسهلة التداول والنطق والكتابة؟! ومن المسؤول عن كلّ ذلك التعتيم والضبابيّة والفوضى؟!
في الحقيقة، هذا الأمر يُشكِلُ عليّ؛ هل هي مؤسّسات خاصّة أو عامة؟! ومن هي الجهة التابعة لها؟! ومن أين يأتي التقصير في انتثارها؟! وهل هو قصور أم تقصير؟! ذاتيّ شخصيّ أو عام؟! ولماذا لا يعرض اسم أيّ مجمع، إلّا في التعريف بسيرة عضو متوفّى؟! وغالبيّة الأعضاء في أعمار متقدّمة؛ أطالها الله!
القضيّة المثارة هنا ليست آنيّة، ولا طارئة، وقد بذلت شخصيّاً مجهوداً؛ حين كنت مسؤولاً في مؤسّسة ثقافيّة، ودوريّة أدبيّة؛ ومع بعض أعضاء المجمع، وبعد لأي، تمخّض الجهد والوقت والأمل عن مقال يتيم عام في تلك الدوريّة! فالمسألة متّصلة، وملحّة، وضروريّة، وتتزايد أهمّيّتها والحاجة إليها، مع تزايد مراكز الأبحاث والاختصاصات والمختصّين.. هذا الذي يتضاعف مع مرور الوقت، الذي لا يرحم!
فإذا كنّا لا ننتج، فلماذا لا نعبّر بلغتنا عمّا يُنتَج؟!
ولماذا لا يكون لنا ما نطلقه على تلك الاختراعات والاكتشافات والنظريّات؟! تلك التي يتغنّى أصحابها في إطلاقها على أهمّ رموزهم القديمة والحديثة، الأصليّة أو المدّعاة؟!
فيما نتعثّر نحن في التسمية، التي تصاحب المسمّى الذي نتفاخر به؛ كما نتعثّر في استعماله!
ولا ننسى أنّ هناك من يدعو إلى الإبقاء على ما يأتي؛ كما يأتي! ليس احتراماً للمنشئين المكتشفين المنتجين؛ بل إدمان في التشويه والتقزيم والاستسلام للتبعيّة، التي لا تقتصر أشكالها على السياسة، وتزداد خطورة بأبعادها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة؛ وهي أخطرها!
العدد 1104- 26-7-2022