الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
الحرب حدثٌ يفتّتُ الوعي ويفصم الذاكرة. ومع انتهائها تجيءُ ثقافةٌ أنتجتها الحرب، وتحلّ نخبة جديدة مكان النخبة القديمة وقيم جديدة محل القيم القديمة ربما تكون مغايرة أو متناقضة أو شبيهة بواقع ليس بالواقع المعتاد.
قبل الحرب، توالــت تغيــرات اجتماعية وثقافيــة علــى مجتمعـنا السوري فــي العقــود القليلــة الماضـية نتيجة ظهـور ظـاهرة العولمة وما رافقها من ثورة معلوماتية، إذ أحـدثت تغيـراً فـي المواقـف والاتجاهات والقـيم الإنسانية لدى أفراد المجتمع، جعلت العالم أكثر اندماجاً، وجعلـت التحـولات سـريعة وســـاهمت فــي انتقـــال المفــاهيم والقناعـــات والمفــردات والأذواق فيمـــا بــين الثقافـــات والحضارات وهي التي نقلت العالم من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثـة وبالتـالي في دخوله إلى عصر العولمة.
إن ثــورة التغيــرات كــان لهــا دور فــي تغيــر الثقافــة الموروثــة للمجتمعــات. إن المعلومات والاتصال قد أثرا في حياة الأفـراد وهـي اليـوم مـن أهـم العوامـل التـي تعقد تشكيل خبرات وثقافة وأذواق وسلوكيات الأفراد والمجتمعات.
لقد ترتب على الثـورة المعلوماتيـة حـدوث تغيـر اجتماعي متسـارع فـي القـيم والمعـايير والمؤسسـات والعلاقـات الاجتماعية والانفتاح الإعلامـي الثقـافي الحضـاري العـالمي بفضـل وسـائل الإعـلام السـريعة.
وتقـف الأسـرة في مجتمعنا في ظلّ تلك التطورات حــائرة بــين المحافظــة علــى الثقافــة الموروثــة وبــين الثقافــة الغربيــة الناجمــة عــن العولمــة والمعلوماتيــة التــي غــزت العــالم بمــا تملكــه مــن تقنيــات متطــورة وأســاليب إغــواء إنساني له خصوصياته الثقافية بحكم تاريخه الاجتماعي.
إلا أن العولمــة تطمــح إلــى صـوغ ثقافــة كونيــة شــاملة تغطــي المنطقــة العربيــة والعالم مثل مختلف جوانب النشاط الإنساني وتكون ما يسمى بالقواعـد الأخلاقيـة الكونيـة والتـي تركـز على شعارات حق يراد بها الهيمنة والسيطرة الحرية السياسية والتعددية الفكرية واحتـرام حقـوق الإنسـان وتقبـل الآخـر.
ما من شك أن سورية واجهت خلال الحرب الكونية التي استهدفتها على أكثر من صعيد ومن قبل جهات وأطراف عديدة صراعاً قيمياً لافتاً، وفوضى قيمية كبيرة، وفراغاً أخلاقياً مهولاً، وتعديلاً مستمراً للأنساق والمنظومات القيمية، بل أكثر من ذلك خطورة هو الإهمال الكبير للإنسان المعاصر حتى لفكرة القيم والوعي بها، الأساس الذي اعتمده أعداء سورية في الحرب من إرهاب فكري وسياسي وإرهاب اقتصادي وإرهاب مجتمعي أرادت من خلاله إخضاع سورية دولة وشعباً وجيشاً وحضارة ومستقبلاً وطمس هويتها وتقسيمها وتحويلها كما الأخلاق والقيم إلى واقع يناقض طبيعتها وأصالتها وتراثها وثقافتها.
إننا في سورية وبعد سنوات من الحرب، نجتاز فعلاً أزمة قيم مدمرة، تشابكت أصولها وفصولها وأسبابها ودواعيها، فكان من الواجب أن يقف الإنسان المعاصر وقفة مع الذات ليطرح بعض الأسئلة: هل يمكن العيش دون قيم؟ وهل يمكن العيش في العالم دون ضوابط أخلاقية وسلوكية؟ وما القيم التي يجب أن نعيش بها؟ ولماذا تلك القيم بالضبط؟ وهل القيم جماعية أم فردية؟ وهل القيم ثابتة ومطلقة أم متغيرة ونسبية؟ من يصنع القيم وينتجها: القوي أم الضعيف؟ وعلى أي أساس؟ وكيف تتغير الأنساق القيمية؟
وفي ظلّ طغيان وسائل التواصل الاجتماعي وما تقدّمه من مادة سهلة سريعة لا تتطلب الكثير من الجد والتدقيق، وفي ضوء طبيعة برمجة وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الكاتب أو الأديب والمثقف بشكل عام أمام مسؤوليات جسام لا يستطيع أن يتجاوزها أو يهمشها من تفكيره، فإن القارئ أو المتابع للحركة الثقافية والفكرية أصبح واعيا لحقيقة ما يكتب ويعرض عليه ثقافياً وفكرياً، خاصة أنه توفرت لديه الأدوات السهلة للتعبير عن رأيه وردة فعله على ذلك من خلال قنوات التواصل الاجتماعي.
ففي حالات الحرب والتردّي الاقتصادي تراجعت أهمية الثقافة والفكر حتى دور المثقف والمفكر لم يعد ينظر إليها نظرة المهتم والقادر على التغيير وإحداث التقدم، وتضاءلت وسائله وأدواته في استيعاب التطورات ومواكبة آلياتها الجديدة، فالحرب أثرت على اهتمامات الناس ولم يعد يفكرون في ظل ما أعقب الحرب من ترد اقتصادي أصابت حالته المعيشية يعيرون الاهتمام للثقافة والنظريات الفكرية، ويتعاملون معها كمنهج عمل في حياتهم، التي غلب عليها المادة وتأمين لقمة العيش، فأصبح كلّ فرد في المجتمع يستسهل المعرفة التي تأتيه عبر التواصل الاجتماعي، ولم يعد يكلف نفسه بالبحث عن الأفكار الحقيقية التي تساعد على تنويره وتثقيفه وتمكنه من كشف الغث والسمين في المعروض من الثقافة والفكر.
ألم تصبح القيم اليوم مجرد أغطية أيديولوجية تتستر خلفها آليات سلطوية؟ ألم تصبح القيم اليوم تصنع في مصانع السياسة؟ الأزمة القيمية أمُّ الأزمات كلها: إن ما يتهدد الكيانات الحضارية لا يكمن فقط في الأوبئة أو الحروب أو الغزوات العسكرية مهما اشتدت ضراوتها، على الرغم من أنها أحدثت وبالاً على الشعوب وكادت تبيدها، لكنها مجتمعاتها استطاعت أن تنبعث من جديد، والسر في ذلك يعود إلى أن القيم التي أقرتها والتي تأسست عليها هذه الأقوام بقيت حية فيها، ومن ثم فمن الضرورة حماية الخصوصيات الحضارية للأمم والشعوب، أو ما نسميه بالأمن القيمي، وذلك على اعتبار أن التحول في القيم هو بالضرورة تحول في الذات الحضارية. لذلك نقول :إن الميزة التنافسية لأي أمة لا تكمن في إمكاناتها المادية، بل في قيمها وأخلاقها.
إذا عدنا إلى تعريف الثقافة، بأنها تعبير عن الحياة الاجتماعية الكلية للإنسان، بما تنطوي عليه من قدرات ومهارات وعادات وتقاليد تكتسب في الجماعة البشرية ذاتها، وهي الذاكرة الجمعية لأي مجتمع، وأساس هويته وانتمائه وتميزه، مثلما هي قاطرة نحو التنمية المستدامة للمجتمع في شتى المجالات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
وتنبع أهميتها من الجدارة التي أثبتتها في حفظ الذاكرة والتاريخ، واستنهاض مختلف التعبيرات والخصوصيات الثقافية، وفي إغناء وإفادة المجتمع، وإعطائه حضارة متألقة. والثقافة بهذا المعنى، هي سجل مفتوح يواكب تطور المجتمع وسيرورته، ويخضع عبر مجريات التاريخ لتفاعلات عدة تؤثر عليها من حيث الوظيفة التي تؤديها تجاه الأفراد والجماعات البشرية.
وعلى المستوى الأنثربولوجي، تعدّ الثقافة أسلوب الحياة أو طريقتها التي يعيشها أي مجتمع بما تعنيه من تقاليد وعادات وأعراف وتاريخ وعقائد وقيم واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية ومواقف من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل. إنها طريقة تفكير وأنماط سلوك ونظم ومؤسسات اجتماعية وسياسية وما يعيشه المجتمع من انفتاح أو انغلاق.
من هنا نرى أهمية الثقافة والفكر في المجتمع قبل الحرب وخلالها وبعدها. والشيء المهم في اللوحة المعرفية وجود التنوع الثقافي، الذي شكل لسورية مورداً وثروة وسم كيانها المجتمعي، وشكل لها قيمة مضافة وامتيازاً ثقافياً غنياً.
ومن هنا أيضاً تبرز أهمية الكتابة الابداعية في الثقافة والفكر ونوعيتها وسماتها بأن تكون كتابة عقلانية واعية فاهمة بعمق لما يجري، وقادرة على عرض الأفكار بوضوح تتجاوز الآني، وتعبر بعمق إنساني عن تطلعات المجتمع بعيداً عن الانفعال والتأثر بالأفكار السطحية فارغة المضمون ولها ايقاع فضفاض.
انتماء السوريين الوطني صنع المستحيل، بعكس ما أرادت قوى العدوان عبر محاولة تخريب الفكر الأصيل لديهم، لكنها فشلت وأخفقت، رغم أنها فصّلت أجنداتها التخريبية بكل إتقان، وأنشأت لها مراكز البحوث الاستراتيجية والمعاهد الأكاديمية والجامعات، والمحطات الفضائية، بل والإمبراطوريات الإعلامية الكبرى، وجندت لها ملايين العناصر والأدوات، ورصدت لها آلاف المليارات من الدولارات حتى تنجح في مخططها الاستعماري.
العدد 1105 – 2 – 8-2022