الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
ليس غريباً أن تتأثّر المجتمعات وشرائحها المتنوّعة؛ بالأحداث الكبرى، التي تتعرّض لها أوطانها، وتختلف درجات التأثّر، وأشكاله، وأعماقه، حسب هذه الأحداث، وضراوتها، وامتدادها، وحسب مستويات المجتمعات والأفراد فيها؛ وعياً وحصانةً معنويّة، وكفاية مادّيّة، وانتماء. وليست مجتمعاتنا استثناء؛ ولا سيّما أنّ ما فرضته الحرب العدوانيّة على سوريّة، كان قارساً وشرساً، على مختلف الشرائح والمستويات، وعلى امتداد أراضيها، وفي جميع مجالات العمل والحياة؛ مع تأكيد ما هو معروف، بأنّ وقعها كان مباشراً على كثير من السكّان في مناطقهم ومدنهم وقراهم؛ قصفاً وعنفاً وخطفاً وتقتيلاً وترويعاً وتهجيراً قريباً أو بعيداً؛ وغير مباشر على آخرين؛ عطالة وبطالة ونقصاً في الأنفس والحاجات والمتطلّبات، وتوزّع الناسَ جميعاً؛ وإن بدرجات، لا تتفاوت كثيراً، الخوف وانعدام الأمن والأمان، والقلق على الحاضر والآتي، والتشوّش والتضليل في المرويّات والمسموعات، والعكر والخراب في المشاهد والمرئيّات..
ولا شكّ في أنّ كلّ هذا، انعكس سلبيّاً على تفاصيل الحياة ومفرداتها، وعلى العلاقات والمعاملات، والنظرة إلى الذات والآخر، الذي قد يكون أقرب الناس، والخوف عليه، أو منه، والسعي إلى النجاة بالنفس، والخلاص الفرديّ حيناً، والجمعيّ حيناً آخر. ومن المألوف أن تهيمن الإشاعات، وتتّسع دوائر الشكّ، وتضطرب الدوّارات أكثر في البرك التي بقيت مستقرّة في المكان، بعدما ألقيت فيها الحجارة غير الكريمة، والنفايات الملوِّثة، والأفكار السامّة، فما بالك بتلك التي تشكّلت على عجل أو خطر، أو رجوى أمان؟!
ولكن إلقاء كلّ شيء على تلك الوقائع خلال ما يزيد على عقد من أشكال الحرب المشوّهة، وأنواعها الجاحدة؛ على شراستها وحدّتها وحراجتها، يجانب الصواب؛ فلا يمكن تجاهل ما يصيب العالم من شروخ وأزمات ونكبات وأوبئة؛ ليس آخرها كورونا ومتحوّلاته، ولا ما كان قبل الأحداث الأليمة لدينا، وما أثاره موقدو الفتن والحرائق ومرتكبو الفظائع، والدعم المادّي والإعلاميّ اللامحدود للبؤر المجرثمة، والنيات الآثمة والقاتمة، يتحمّل عبئاً مهمّاً من أسباب ما صار؛ كما أنّ من الظلم ألّا ينظر بعين رضيّة على كثير من الأقوال المشرقة؛ تسامحاً وتفاؤلاً وتواصلاً سليم الغاية والآليّة، وكثير من السلوكات الأصيلة، والمواقف النبيلة، التي تجلّت في الميادين المشتعلة، أو المستعدّة لمواجهة النيران؛ ولا يمكن نسيان التضحيات الأسطوريّة، التي قامت بها مجموعات إيثاريّة، في ساحات القتال، أو في الجبهات الخلفيّة؛ فبقيت في مواقعها، تلاقي مصيرها الاستشهاديّ؛ لتؤمّن حياة آخرين، أو قاومت الحصار المحكم في لؤمه بشجاعة وتكيّف وتحمّل بصور استثنائيّة! أو تلك التي تفانت لفكّ الحصار أو الأسر، أو الهيمنة على أناس ومناطق، أو لسحب جثّة شهيد، أو لحمل جريح، أو للعبور بمواطنين ضاقت بهم السبل؛ مع تحمّل كلّ التبعات الخطرة لهذا، وهناك من قضى بسببه. ولا يمكن التغافل عن توزيع النادر الذي تبقّى، أو وصل في ظروف حرجة، على الجميع بالتساوي؛ بل بتفضيل الآخر على النفس؛ وماذا نقول عن الذين اعتنوا برفاقهم، وبأرواح مذعورة، وسعوا لتطبيب المصابين، بما لديهم من مواد، وبما ليس لديهم من خبرات وأدوات وإمكانيّات؛ كما حرصوا على دفن من توفّاه الله منهم، في أماكن معروفة، وأقاموا عليهم الطقوس التي ارتأوها؛ في ضوء جهلهم لما يجب، وحرصهم على احترام الحال والمآل؛ فيما لم ينل سوى هؤلاء هذا التقدير.
ومن المدفونين والمطمورين من تمّت استعادة جثامينهم بعد سنين من التغييب القسريّ تحت سطح الأرض.
وماذا نقول عن حجم الكثافة السكّانيّة في مناطق عديدة، بعدما التجأ إليها مواطنون من مناطق متفجّرة، وتقاسموا مع سكّانها اللقمة والجام وحبّة الدواء، ونسمة الهواء، والخبر السعيد، والأمل المقيم؟!
وماذا عن تحمّل الارتفاع الجنونيّ للكلف، والانخفاض القياسيّ في الشحّ، وصعوبة تأمين الحاجات، وعسر التنقّل، وضعف إمكانيّة ممارسة الحياة بشكل أفضل في الحدّ الأدنى؟!
ومن المتفهَّم أنّ الملمّات تجوهر القلوب الأصيلة، وتُزْكي النفوس الكبيرة، وتعطّر الأنفاس والروابي والكائنات، وقد تُظهر جهالةَ الجاهلين، وحماقة الغافلين، وغشومة الأشقياء، ونهم الضعاف، وأنانيّة الطامعين؛ فيزدادون دناءة ونذالة، ويتفاخرون بما نهبوه، من أفوه ضحاياهم، أو جيوبهم، أو دورهم، وهم ينظرون بلا حول، أو لا يحسّون بلا حياة؛ وحوّلوه بنيات قاتمة، وبانشغال الحماة والمتابعين الشرفاء المخلصين المضحّين ذوي النفوس العزيزة، إلى مصادر منتنة للتحصيل والإثراء، التي فرّخت خلال وقت لا كالأوقات، إلى أوكار وأوجار، ومحلّات وعمائر ووكالات مستحدثة، ينظر إليها التعبون المعذّبون بمرارة وحسرة؛ حيث تبقى الأضواء المستفزّة فيها وحولها مشعشعة؛ لأنّ دواخل شاغليها معتمة، وآفاقهم مكسورة، وقلوبهم ميّتة، ولأتباعهم سلوكات مريضة، وهيمنات مؤذية على الموارد الشحيحة للغالبيّة المحتاجة؛ ومنهم من يتصدّق بالفتات، ويتشدّق بالأعطيات، من دون أن يَسأل أو يُسأل: من أين لك هذا؟!
فيما سواهم لا يستطيعون إسكات قرقرة، ولا الهجس بملامح هدهدة!
ولكن.. من قال بأنّ الأمثال غير الحسنة لتلك، والفاغرة لهؤلاء الصابرين، لم يكونوا قبل الحرب، وأنّ هذه السلالات الانتهازيّة، لم ينتشوا على دمن الرخاء، أو الفساد، الذي كان قبل العدوان؟! ومن قال بأنّ السوس لا يعشّش منذ تلك الأوقات في الجسد، وأنّ العطب لا يقيم في بعض الروح؟! فلولا هذا، ما كانت الثغرات، التي نفذ منها المعتدون، وما كانت البؤر، التي تكاثرت فيها الجراثيم، وما كانت البيئات، التي تركت الأيدي الآثمة، تعيث في الكائنات والموائل نخراً، وتهشيماً، وتصديعاً.
وللحقّ أقول، ما أومن به، وكتبته منذ سنوات، بأنّ الوعي الشعبيّ العام، هو الذي حمى البلد، والكائنات المثقّفة، هي التي حصّنت، وتحصّنت؛ والأمر لا يتعلّق بشهادة عليا، أو عقيدة بعينها، أو انتماء مشار إليه؛ بل إنّ الأمر يتّصل بقيم، ما تزال قائمة، وخصال ما انفكّت أصيلة، وطباع ما برحت طيّبة؛ هذا ما يفترض أن نركّز عليه، ونستظهره، ومن دونه، لم تكن لتبقى مؤسّسات، ولتسلم شرايين، ولتظلّ قلوب تلهج بالأمل والشكر للإنسان فينا، وما كانت لتكتظّ بيئات داخليّة، بمن جاءها مهجّراً، ويعيشون معاً بسلام وأمان، بما توفّر، ومن دون أدنى مشكلات وأقلّ حساسيّات؛ على الرغم من أنّ بعض شبابهم ورجالهم يخوضون مواجهات متنقّلة في مواقع متقدّمة ومتنقّلة! ولولا ذلك، لما برع مهجّرون ومهاجرون إلى الخارج في أعمالهم، وكفاحهم، وحافظوا على انتماءاتهم وخصائصهم الحيويّة الإيجابيّة وجدّيتهم، ورموا جانباً، في أكثريّتهم الساحقة بالأثقال المتوارثة والأعباء المستجدّة، التي كانت لديهم، وعاشوا معاً، ومع الشعوب التي حلّوا بينها، بأكبر قدر من الإخلاص والتفاني؛ وقد برز منهم كثيرون وتميّزوا، واخترعوا وبحثوا وحصلوا على ألقاب وشهادات، وظهرت لديهم مواهب وإمكانيّات، انشغلوا بها وبتنميتها عن موبقات وأفكار ظلاميّة كانت، ويمكن أن تكون. ولم تكن مجتمعاتنا خلواً من الحساسيّات، ولن تكون.. لكنّ من الواجب إهمالها، والتخلّص من انعكاساتها المسيئة للنفس قبل الآخرين. وربّما لو حوسب الجاني قولاً وفعلاً، أو يحاسب في حينه، لتطهّرنا من كثير من السوءات، وتعالينا درجات أكثر في سلّم الفضائل، ولما تجرّأ كثيرون، في الماضي، وحالياً أكثر، على التباهي بمعايبه.
وللحقّ أيضاً، فإنّ ما يحدث من تجاوزات، وما يشاع من أفكار، وما يثار من حساسيّات، تبقى في حدود التوقّع لمثل هذه الأوقات والظروف، وتمكن السيطرة عليه؛ إذا ما صدقت النيات، وسلمت الإجراءات، من دون الاكتفاء بالسكوت عنه، أو إدارته عن قرب أو بعد، أو ابتزاز أصحابه، واستغلاله، وتعويمه. إنّ الأخطر في كلّ هذا، أن يصبح التجاوز عادة، والفساد مألوفاً، وأن تبقى للنافذين بغير وجه حقّ، محميّاتهم، التي لا يأتيها القانون من أيّة جهة، وأن يرضى المعوزون بما يرمى إليهم، وأن يقنطوا من إمكانيّة تغيّر الحال، وأن يقتنعوا بأنّ الحال قدريّة، وهي بلوى من الله، يكتفون بالدعاء أن ترفع عنهم؛ لأنّهم مذنبون؛ وقد يستحقّون!
ولا بدّ من تأكيد أنّ التحوّلات غير الطبيعيّة، تشمل العالم، والأفكار والسلوكات غير المألوفة باتت تنتقل بتسارع مذهل بين الشرائح والشعوب؛ متجاوزة الانتماءات الأسرويّة والمؤسّسيّة والوطنيّة والعقائديّة المختلفة؛ والتحصين مطلوب والمواجهة قائمة ومستمرّة ومتشارسة.
ويجب ألّا ننسى أنّ من الكبائر أن نشارك في الإثم، وندّعي مقاومته، وأن نتحدّث عن أخطاء الآخرين، ونتغافل عن خطايانا! وأن (نستفيد) من الفساد، ونسوّغه.
إنّ من الأخطاء القاتلة، ألّا نتعلّم من الدروس الشاقّة المؤلمة، التي خضعنا لها، ومن التحدّيات التي واجهناها، وأن نعود إلى المجاري ذاتها، والجهات عينها، والدروب الضيّقة بعتمتها وعفونتها، والسوائل التي ثبت تلوّثها وتسميمها، فنحاول التطهّر بها، والتبرّك بطقوسها وأقوالها؛ متناسين، أو متجاهلين أنّ علينا العمل الأسرع، بثقافة أسمى، وبفكر منفتح، وبأيد أنظف، وبغايات أنصع، لفضاءات أرحب، ولأوقات أجمل، ولعلاقات أوثق، ولظروف أفضل، ولمستقبل أنضج!
العدد 1105 – 2 – 8-2022