الرواية البوليسية .. هل فقدت مكانتها؟

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:

كنا صغاراً ومراهقين، وكانت الروايات البوليسية أول نافذة أطلينا من خلالها على عالم الأدب، على شكل « كتب الجيب» قرأنا مغامرات شارلوك هولمز و « ارسين لوبين» وشدتنا بقوة روايات سيدة هذا النوع أجاثا كريستي.. قبل أن نلج عالم الكتب الأدبية.
وفى الغرب ليست وحدها الناقدة فى صحيفة «الجارديان» البريطانية لورا ويلسون من تعتبر أن أنسب هدايا الكتب فى سياق احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة والمناسبات والأعياد الأخرى هى كتب المغامرات المثيرة والقصص البوليسية المشوقة.
بينما ظهر في الولايات المتحدة الأميركية جيل جديد من كتّاب الرواية البوليسية، اضحوا ملوك مبيعات الكتب في الدول الانكلو-ساكسونية دون منازع وأغنى الكتّاب.. حتى أن مبيعات كتب البعض منهم تصل إلى 200 مليون نسخة. وتقول الكاتبة جانيت ايفانوفيتش، وتأتي مرتبتها الثالثة في قائمة أغنى الأدباء ضمن تلك القائمة ( قائمة (Forbesأنه وبعد مواظبتها فترة طويلة على كتابة الروايات العاطفية التي لم تحظ بأي نجاح جماهيري، اتجهت إلى كتابة الروايات البوليسية، التي جنت من ورائها الأضواء والأموال, ودحضت ادعاءات البعض الذي يقول أن الكتب لا تجني سوى الفقر.. وفي فرنسا صارت كتبها تصدر على شكل كتاب الجيب.


وأن تصل مبيعات عدد من الروايات المتلاحقة التي يقوم ببطولتها نفس الأشخاص إلى ملايين النسخ، لا سيما حين تكون الروايات بوليسية أو روايات مغامرات خيالية أو ما يشبه ذلك.. ولكن أن يباع من روايات بوليسية ذات فكر اجتماعي لا بأس بعمقه 170 مليون نسخة خلال عدد قليل جداً من السنين ولا يزيد عدد تلك الروايات على ست موزعة على مؤلفين لمجرد أن أولهما قد مات حتى قبل أن يرى كتبه منشورة، فأمر يستدعي التفكير.. ونتحدث هنا بالطبع عن سلسلة روايات «ميلينيوم» وعلى الأقل في أجزائها الأولى التي كتبها السويدي ستيغ لارسون مكتملة قبل رحيله المبكر في عام 2004 من دون أن يوفق عند بداية الأمر في إيجاد ناشر لها طوال سنوت تلت كتابته أول أجزائها، لكنها عرفت منذ عام 2005 أي منذ بدأ نشر الأجزاء الثلاثة الأولى تباعاً نجاحاً مذهلاً، أدى على الفور إلى تحويلها إلى ثلاثية سينمائية عرضت في عام 2009 تباعاً، لكن نجاحها أول الأمر لم يكن ضخماً إذ كانت سويدية الممثلين واللغة ما استتبع إعادة إنتاجها لاحقاً في ثلاثية أميركية فاق نجاحها هذه المرة كل التوقعات.
والسؤال المطروح الآن، نستعيره من الروائي الاسكتلندي إيان رانكين: لماذا تعامل الرواية البوليسية على أنها نوع أدبي أقل أهمية بالمقارنة بما يسمى الرواية الجادة؟ ولماذا تقطع الصلة بين هذه الرواية وبين ما يسمى بالأدب الروائي الراقي، على الرغم من وعيها الشديد بمسألة البناء الروائي و ما تبديه من براعة في معالجة العديد من الموضوعات الأخلاقية المهمة التي تدير لها الرواية الجادة ظهرها أحياناً؟.
ماذا لو عاش تشارلز ديكنز في القرن الحادي والعشرين وكتب رواية مثل روايته الشهيرة «منزل بليك «التي يعتبرها النقاد أول رواية بوليسية في الأدب البريطاني 1852، هل سيأخذها هؤلاء بعين الاعتبار؟
الآن وبعد مرور أكثر من قرن على نشر رواية ديكنز، لماذا لا تمنح أنواع أدبية منها الرواية البوليسية جوائز أدبية رفيعة مثل جائزة بوكر على سبيل المثال؟ على الرغم من خلفيتها التاريخية، ومصداقيتها الإبداعية وأشياء أخرى مثل مخاطبتها ذهن القارئ واستلهام موضوعاتها من روح العصر، إلا أن ثمة ما يجسد إشكالية بالنسبة للرواية البوليسية يتورط فيها النقد الأدبي في المقام الأول.. على الرغم من أن بعضاً من كتّابها وبعدما تحولوا فيما بعد عن كتابة الرواية البوليسية تُوجوا حتى بجائزة نوبل فى الآداب كما هو حال الكاتب كازو ايشيجورو، وكان قد وقع فى هوى الأدب منذ أن صافحت عيناه قصص شرلوك هولمز البوليسية وهو طفل فى التاسعة من عمره.. وفي ذات السياق, تعبر عن ذلك، بي. دي جيمس، الكاتبة البريطانية المشهورة بسلسلة روايات بوليسية, مؤكدة أن عالم الجوائز الأدبية لا يبدو مهيأ للنظر إلى الرواية البوليسية بعين الاعتبار على الرغم من قدرتها على استيعاب المزيد وإلقاء الضوء على المشكلات الاجتماعية والأخلاقية والتعقيدات الاجتماعية، التي تواجهها المجتمعات الإنسانية في عصرنا الحالي وذلك على نحو لا تستطيع غيرها من الأنواع الأدبية القيام به.. وثمة أعمال مثل « البريء وعدالة الموت « تدور حول لغز واحد اشترك في كتابته حوالي 26 كاتباً .. ولكنها على ما يبدو ستبقى تعاني من حالة العزل الموشكة على إقصائها على المستوى الإبداعي.
لا شك أن الرواية البوليسية التي نشأت في القرن التاسع عشر تتقاطع مع الرواية السوداء المحفوفة بالأفعال الخارقة والرعب والتشويق، ومع رواية المغامرات والرواية المتسلسلة وسائر الروايات كونها رواية أدبية أو غير أدبية أي رواية قائمة على «تقنية موضوعية» تجعلها تستوعب الأفعال عبر عيني مراقب هو داخل الرواية وخارجها.. لكنّ الرواية البوليسية تبدو انعكاساً مقلوباً للرواية الواقعية: انها تبدأ من النهاية (الجريمة) وتنتهي في البداية (سبب الجريمة) والشخصية الواقعية الوحيد فيها هي: الميت.
إلا أن هذا النوع البوليسي لم يحظ عالمياً بمواصفات أو معايير يمكنها أن تحدّده تحديداً ثابتاً ونهائياً.. معظم محاولات «التحديد» لم تلق النجاح المفترض، وحتى الآن يمكن وصف روايات عدة بـ «البوليسية» من دون أن يكون فيها «بوليس» أو «جثة». الكاتب الأميركي الشهير ادغار ألان بو (1809 – 1849) أحد آباء هذه الرواية يصف الأدب البوليسي بـ «اللغز» الذي على القارئ أن يحلّه بدقة ومنطق كما لو أنّه «يحل معضلة حسابية». أما الناقد الأميركي فان داين فعمد في العام 1928 إلى وضع «القواعد العشرين للرواية البوليسية» معتبراً إياها أشبه بـ «لعبة شطرنج» و «تمرين ذهني».. وأولى قواعده تنصّ على أن «يملك القارئ والتحرّي حظوظاً متساوية لحلّ المشكلات». ومثله أيضاً وضع الناقد رونالد كنوكس في العام 1928 «الوصايا العشر» التي تقتضيها كتابة رواية بوليسية.
وقبلهما أصدر الناقد شيسترتون كتاباً مثيراً في هذا الحقل عنوانه: «كيف تكتب رواية بوليسية» (1925). الروائي الأميركي البوليسي الكبير ريموند شاندلر (1888 – 1959) اعتمد «الواقعية البسيطة والحقيقة البسيكولوجية» ساعياً الى كشف العالم الداخلي للمجرمين أو القتلة.. ويرى بعض النقاد الغربيين أن الرواية البوليسية ولدت مع الكاتب الإغريقي سوفوكل في مسرحيته «أوديب ملكاً»، ففيها يؤدي أوديب دور المحقق في مقتل والده، ملك «طيبة» ويكتشف أن القاتل ليس إلا هو نفسه.. ويجد بعض النقاد الفرنسيين أن رواية فولتير الشهيرة «زاديغ» هي من الأعمال البوليسية الأولى، ويرى نقاد آخرون أن الرواية الأولى في هذا الميدان كانت صينية…
وضمن هذا الإطار، لم تعرف الحركة الروائية العربية الأدب البوليسي كنوع مستقل بحد ذاته، سوى بعض الملامح البوليسية تضمنتها روايات لأدباء من أمثال نجيب محفوظ ولكنها غير كافية لتصنع أدباً بوليسياً عربياً.
قد يكون من السهل طرح الأسئلة عن غياب الأدب البوليسي عربياً، لكنّ من الصعب إيجاد أجوبة شافية عن هذا الغياب الذي يمكن وصفه بـ «الفادح».. فالأدب البوليسي العالمي استطاع خلال نحو قرن ونصف قرن أن يشكل تراثاً هائلاً، مرسخاً هذا اللون ضمن الصنيع الروائي والقصصي على رغم اعتراض بعض النقاد الدائم على « أدبيته «…ولكن لنا عوض من حبكات بوليسية وتحقيقية في قصص ألف ليلة وليلة.. لا مجال لنا في تلك العجالة من استعراضها.

العدد 1119 – 8-11-2022

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة