الملحق الثقافي- دلال إبراهيم :
قبل 68 عاماً من الآن، اقتحمت رواية صباح الخير أيها الحزن لكاتبة مغمورة تبلغ الثامنة عشر من العمر عالم الأدب بشكل مثير ورائع، ومن حينها بدأت تكبر أسطورة اسمها فرانسوا ساغان بسرعة كبيرة، والآن وفرنسا تحتفي بمرور ثمانية عشر عاماً على رحيل روائية لم تنتم إلى أي مدرسة أو مذهب أدبي، بل كانت كتاباتها حرة وفيها الكثير من البساطة والسلاسة والموسيقا التي تحمل في عمقها بعداً إنسانياً وجودياً ونفسياً يميز عالمها، هذا العالم الذي اعتبره بعض النقاد عالماً سطحياً مادياً ورديئاً، في حين اعتبره بعضهم الآخر تعبيراً عن قلق الإنسان الوجودي، سنروي هنا حكاية هذه الرواية منذ بداية انطلاقها كما روتها صحيفة لو فيغارو الفرنسية..
في السادس من شهر كانون الثاني لعام 1954 أودعت فتاة نحيلة ملتفة برداء (مانطو) في صندوق البريد في مثلث ذهب الآداب في حي سان جيرمان – دي – بري مغلف كان عبارة عن طردين أشبه بزجاجات ألقت بهما في بحيرة الأدب الكبيرة إلى عنوان دار نشر جوليار وبلون . وأرفقت الشابة مع المغلف الذي كان يحتوي على مخطوطة روايتها الأولى التي وضعت لها عنوان (صباح الخير أيها الحزن) بطاقة كتبت عليها «فرانسوا كواريز، شارع 167 ماليشيرب، كارنو 59 – 81، مواليد 21 حزيران 1935» أي سن الشباب في بداية تفجره. وأول قارىء متمعن لتلك الرواية لدى جوليار كان فرانسوا لو غريكس، وملاحظاته عليها دون فيها كل الوعود القادمة بروائية واعدة ومما كتبه:»يسيل قلم الآنسة كواريز بشكل سلس دون تردد ( …) السحر والافتتان بشكل خاص كانا من نتاج الشر والبراءة على حد سواء وكذلك نتاج التسامح والمرارة إزاء الحياة بحلاوتها وفظاعتها.»
وفيما بعد مرت المخطوطة إلى المدير، رينيه جوليار، والذي كان من عادته القراءة ليلاً. وحينها كان عائداً من عشاء في منزل بيير روش، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي. جرى الحديث عن أمور ذات جدية، ولم يضع وقته في قراءة رواية لفتاة صغيرة، وعلى الرغم من ذلك فقد أصابته الجملة الأولى من الرواية في أعماقه على الفور «في هذا الشعور الغريب من السأم، تملكتني النعومة والرقة، أتردد في وضع الاسم، الاسم الجميل الخطير للحزن».
في اليوم التالي، وكانت لذة قراءة الأمس قد جعلته نافذ الصبر، اتصل بعنوان كارنو 59 – 81 من أجل حل اللغز الغامض والذي اسمه فرانسوا كواريز، صوت أنثوي رد على الطرف الآخر من الهاتف يقول إنه لا يمكن إيقاظ الآنسة كواريز ويمكن إعادة طلبها مرة أخرى. لا شك أنها تراقب بذرتها جيداً، فالشابة بالمنزل تعتبر طرفاً، ولا يمكن لومها حيث إن الراحة هي من الأمور المقدسة بالنسبة لشابة من عائلة كريمة. من جانبه، كان رينيه جوليار يخشى أن يكون وقع ضحية التعامل بطريقة مضحكة مع شخصية متوارية وراء اسم مستعار. كان يريد رؤية هذه المؤلفة الشابة ويخضعها للاستجواب. أرسل برقية حدد فيها موعداً في الساعة الخامسة في شارع الجامعة.
ها هي فرانسوا تعتزم الذهاب إلى جوليار، عقب مضي بضعة أيام من إرسال مخطوطتها. التي تحدت عنها إلى صديقتها فلورنس مالرو، ابنة الشاعر اندريه مالرو، خلال فترة كتابتها بأنها ستجعلها كاتبة، وبالتأكيد لا تبدو تلك المدة بالقصيرة. ولكن رأتها الطفلة المدللة لدى عائلة كواريز وأصغرهم سناً منطقية. استعارت مفاتيح سيارة والدها البويك السوداء اللون وانطلقت نحو جوليار. ولا نعرف الكثير عن اللقاء الذي استمر لمدة ثلاث ساعات سوى أن الشابة خرجت منه ومعها اقتراح عقد (كانت قد طالبت بمبلغ 25,000 فرنك، والمدير اقترح عليها الضعف) وإثر ذلك تنفس جوليار الصعداء. إنها مؤلفة هذا الكتاب برائحته الكبريتية. ولديها الشعار الذي ستزين فيه اكتشافها:»الشيطان في القلب». ولكنها كانت بحاجة إلى إذن والدها لتوقيع العقد من أجل نشر تلك الرواية. حيث لم يكن باستطاعة المرأة الفرنسية حينها المصادف للعام 1954 في عهد الرئيس رينيه كوتي امتلاك المال ولا فتح حساب خاص فيها بالمصرف، بموجب القانون. يضاف إلى ذلك بالنسبة لفرانسوا أنها كانت قاصراً، بالتالي يتولى مقاليد التحكم فيها والدها بصفته ولي أمرها. جرت التسوية بالنسبة للمال أن يتم تسليمهم لها نقداً لتفادي شرك الشيك. وأمام هذه الأموال كان لديها رغبات كثيرة، وقد عبرت لصديقتها فلورنس بمرح أنها «سوف أشتري سيارة جاكوار بمال الكتاب» ونصحها والدها بإنفاق كل شيء.
كان والدها بيير الصناعي ووالدتها، ربة المنزل زوجين برجوازيين لديهم ثلاثة أبناء، الابن البكر كان له 27 عاماً، وكان بمثابة الوصي على أخته وعلى يديه تذوقت طعم الويسكي ومشتقاته. كان أبواها يهويان الضحك والشرب وقيادة السيارات الفارهة بسرعة كبيرة. وقد رأى الأب كتاب ابنته مذهلاً. ولذلك وقع فوراً على العقد ولكنه طلب أن تتخذ اسماً مستعاراً لها.
وبما أن فرانسوا قد استعارت عنوان كتابها من قصيدة للشاعر ايلوار، وقع اختيارها على أمير ساغان فوق حصانه، من شخصيات كتب مارسيل بروست اسماً لها. وداعاً كواريز . أهلاً ساغان. وعليها حازت الروائية جائزة مجلة «كريتيك» ووصفها فرانسوا مورياك في صحيفة لو فيغارو بـ «الوحش الصغير الساحر». كانت بطلة الرواية سيسيل تعيش مع والدها المتحرر في عالم الرفاهية في باريس وتتسامح مع غروره الذكوري ونزواته ومغامراته العاطفية. وقد اكتشفت هي أيضاً اللذة الجنسية مع سيريل الشاب الذي التقته في الكوت دازور. في الواقع تتميز روايات ساغان، ببعدها السيكولوجي. يعيش أبطالها في عالم الرفاهية والشهوانية والرغبة التي تذكرنا بكثير من المواضع بمبدأ اللذة عند فرويد. ولكن في العمق ثمة بحث مؤلم خلف حياة اللذة والترف واللامعنى، بحث عن الذات ومحاولة فهم الذات، ففي الرواية نلاحظ غربتها عن ذاتها وكرهها لذاتها الذي يتكرر ذكره في الرواية. فهي كانت تخطط لإبعاد آن عن والدها التي قرر الزواج منها، معتبرة أن هذه الأخيرة التي تمثل العقلانية وصورة الأم التي تبحث عنها ساغان في روايتها، أو ربما الأنا الأعلى التي تمنعها من الاستمتاع بعلاقتها مع سيسيل ومن اكتشاف جسدها ومن تحقيق رغباتها، وكأننا هنا أمام صراع بين الـ «هو» و الـ «أنا» الأعلى بحسب نظرية فرويد. لم تكن فرنسواز ساغان ملتزمة بالحركة النسائية مثل سيمون دو بوفوار، ولكنها كانت شديدة الاهتمام بوضع المرأة وحالتها في تلك الحقبة ورغبتها في تحقيق ذاتها وأحلامها في عالم يسود فيه الرجال، فساغان التي دافعت عن حق المرأة بالإجهاض ووقعت المنشور 343 للمدافعة عن هذا الحق، جسدت في رواياتها نساء متحررات جنسياً ومستقلات يتمتعن بحرية اختيار الشريك.
لم تعد المرأة في روايات ساغان موضوعاً يتحكم به الرجل، ولكنها تتمتع بالعقلانية التي تجعلها قادرة على اتخاذ القرارات، وحتى القرارات المتعلقة بحياتها العاطفية. في رواية «هل تحبين براهمز؟» تحب البطلة بول، وهي امرأة في العقد الرابع من العمر ومطلقة، منذ ست سنوات، هذا الرجل الذي يتركها من أجل أعماله ونزواته، متأكداً من أنه سيجدها دائماً مستعدة للقائه ومخلصة له عندما يقرر العودة، لكنها التقت بالشاب سيمون الذي عاشت معه الهوى وأتاحت لنفسها بقرار منها فرصة الاستمتاع بحبه لها.
تعبر رواياتها عن الحال الإنسانية وعن البحث عن المعنى وعن معنى وجوده وراء اللامعنى، وربما من خلال اللامعنى تجد المخرج من الكآبة والوحدة والقلق.
وهذا ما ذكرته جوليا كريستيفا في سيرتها الذاتية عن ساغان (شمس سوداء: اكتئاب وكآبة) «إن تسمية الألم وتمجيده وتشريحه في أصغر عناصره هو دون شك طريقة للقضاء على الأسى» وهذا ما حاولت ساغان القيان به من خلال أدبها.
العدد 1121 – 22-11-2022