الثورة- هفاف ميهوب:
يرشق المدى بضوء أنامله، فيصير لوحة هي الحياة التي آلمه أن تعيش في النزيف، وتدمي أبناء قلبها.. يتمرّد على هذه الحياة، ساعياً ما أمكنه لإحياء الجمال والتأمّل والحبّ والسلام، وبكلّ ما ملكت موهبته الرائية، لما جعلها تنطق بأجمل وأبلغِ كلماتها..
إنه “محمد غانم”.. الفنان التشكيلي السريالي الذي جعل من لوحاته معبداً، يمارس فيه كلّ الطقوس التي يباركها وحيداً، لتبارك بدورها المشتهى من حياةٍ افتقدها فتخيّلها، مواجهاً بضوضاءِ صمته، الضوضاء المشيّعة لواقعٍ جسّده عبر لوحاتٍ، قال بأنه يتجنّب وهو يرسمها:
“عندما أرسم أتجنّب الاستماع إلى أيّ نوعٍ من الموسيقا، وأتجنّب الرسم بحضورِ أيّ شخص، أيا كان.. وجود الموسيقا أو الأشخاص، قد يفرض إحساساً مختلفاً عن الإحساس الحقيقي الذي يسود ويسيطر، وبالتالي قد يخلق تضارباً بالأحاسيس والمشاعر، مما يجعل اللوحة تتسرّب وتتلاشى، كما يتسرّب الماء من بين الأصابع”.
هذا ما يقوله “غانم” عن عالم لوحته.. عالم الجمال الذي لا يراه، ويضطرّه لصفعِ البشاعة بريشته، وعالم السلام الذي افتقده، بسبب الاقتتالات والحروب التي أدمت حتى صمته.. يحلم بالحبّ في زمن الغدر والأحقاد، ويستدعي العقل المفكّر والمستبصر، في زمن البلاهة والغباء والجنون والفساد.
إنه زمن الموت والعدم.. الزمن الذي يحاول اختراق ما قبله وبعده، الولادة والرحيل ولحظات المخاضِ و الألم.. يغيب في المعنى فتتجلّى يقظة يديه، ترسم اللوحة حياة، تبدأ ولا تنتهي لطالما، تمكّن من فضائها الذي استدعى قوله فيه:
“تبدأ اللوحة كنيزكٍ مرّ مصادفة أمام عينك،
ثم لا تلبث أن تتورّط فيها، ويبدأ صراعك مع العناصر واللون.. لو فكرت فيها ستنتهي للفشل.. اللوحة تستدعيك واللون يأسرك ويسحبك إليه.. العناصر ترمي بنفسها في حضن لوحتك، دون وعيٍ منك، ولا تنتهي اللوحة أبداً”..
هكذا الفن المبدع.. الفن الرائي لما وراء الحقائق.. الفن الشافي في زمن الجراح.. الفن الذي امتهنه فنانٌ، كانت هوايته مذ طفولته، كسر البديهيات التي استجمعها عقله، وتلوين لحظاته بالجميل والممتع والمدهش..
فنانٌ، يستيقظ فتنام الأحلام كلّها، ويغفو فيداهمه صحوها. يقلق لوحته وحدسه ورؤيته:
“يقظٌ.. ولا تخونني عيناي.. حدسي ترويه ذاكرة، بدأت رحلتها من صخبِ عقارب السّاعة، فلا تعبث بخطوطك على جدران ذاكرتي”..

السابق
التالي