حليب أسود.. أديبات فرضن حضورهن بأسماء ذكورية

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:

هل يقتصر العنف الممارس على المرأة الذي أعلنت الأمم المتحدة يوماً لمناهضته المصادف في 25 من شهر تشرين الثاني من كلّ عام على الجسد فحسب. في هذا المقال سوف نستعرض أنواعاً أخرى لعنف معنوي وروحي كان أمضى من الضرب في القهر والعذاب والألم.
لا يُعرف سوى القليل عن الروائية الايطالية إيلينا فيرانتي منذ بداية حياتها المهنية عام 1991، مع نشر كتابها الأول «حبّ غير مريح»، فهي تتبنى مقولة :» الكتب بعد أن تُكتب ليست بحاجة إلى مؤلفيها « وتكتفي بأن تراقب من بعيد ما يقال عنها وما يثار حولها من أقاويل وإشاعات. وعلى الرغم من النجاح الذي حققته رواياتها وترجمتها إلى أكثر من 50 لغة، فلا صورة حقيقية لها ترافق كتبها، لا حفلات توقيع، لا ندوات، أما الحوارات القليلة التي أجرتها في الصحافة فتمت عبر ناشرها، واختارت الحضور عبر رواياتها فقط مغيبة وجودها الجسدي. ولكنّها ليست الأولى التي أخفت هويتها الأصلية تحت اسم مستعار، حيث تعود ظاهرة الكتّاب الذين تخلوا عن أسمائهم الحقيقية واستعانوا بأسماء أخرى، إلى قرونٍ عديدة.
ففي الوقت الذي اختار الكثير من الرجال أسماءهم المستعارة لأسباب هشّة. حيث كان أول من لجأ إلى التخفّي تحت اسم مستعار هو (فولتير)، الكاتب الفرنسي فرنسوا ماري أرويه. وقد عمد إلى ذلك لعدم الخلط بين اسمه وشاعر معاصر آخر كان يحمل ذات الاسم. وأما تشارلز ديكنز فقد عُرف خلال أعماله الأولى باسم مستعار هو «بوز». وكان من كتّاب الأعمدة السياسيين المشهورين، لكن لم يكن يأخذونه على محمل الجد. تباينت أسباب التخلي عن الهوية الحقيقية واللجوء إلى أسماء مستعارة لدى كلّ من بابلو نيرودا وجورج أورويل. ووفقاً للصيغة الأكثر انتشاراً، أن الشاعر التشيلي لم يكن يكتب تحت اسم ريكاردو نيفتالي بسبب رفض أبيه للشعراء. وقد حدث شيء مماثل لجورج أورويل، الذي لم يوقع أبداً تحت اسم إيريك آرثر بلير كي لا يزعج والديه. نرى أن معظم الكاتبات المعاصرات (ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى الآن)، اخترن أسماء مستعارة رجالية من أجل الصمود في عالم لطالما كان حكراً على الرجال. مي زيادة، وسيلفيا بلاث، وزيلدا فيتزجيرالد، والأخوات برونتي، وغيرهن كثيرات.. كاتبات ومبدعات وُسِمت حياتهن بالألم والمعاناة، ورحلن عن العالم رحيلاً مأساوياً، لكنهن تركن وراءهن أعمالاً أدبية جميلة.
هن كاتبات وشاعرات وروائيات، منهن من لم يتحدث التاريخ عن إبداعهن ونِضالهن بما فيه الكفاية، ومنهن من ارتحلت وسط الألقاب اتقاء لشر المجتمع، وأخريات غيرن أسماءهن إلى أسماء رجال حتى يأخذهن القراء على محمل الجِد. أياً كانت الأوضاع فإن ما جمع هؤلاء النساء هو حبّ الأدب والرغبةُ العميقة في الإبداع بحر ية.
الكاتبة الانجليزية الشهيرة فرجينيا وولف هي واحدة من أكثر الكاتبات تأثيراً في عالم الأدب، تناولت نظرية خالصة عن ذلك الأمر في مقالها :»غرفة تخصّ المرء وحده « عندما افترضت وجود أخت خيالية للكاتب شكسبير تملك نفس موهبته في الكتابة وقدرته على تشكيل الكلمات بذكاء، وتسألت: إذا كان لدى شكسبير أخت حقيقية هل كانت سوف تحظى بنفس المكانة الأدبية أو الحرية الفكرية؟
بالتأكيد لا، بل كانت حياتها الأدبية سوف تقتصر على صفحات مختبئة بين جدران غرفتها، ويحصرها المجتمع فقط في دور تأهيلي لجعلها زوجة وربة منزل مناسبة، في الوقت الذي ستظل تلك الفتاة المسكينة مجهولة ومهملة لكن أخيها سوف يتمتع بالشهرة والثروة تقديراً لأعماله الأدبية.
وبهذا التخيل توضح فرجينيا وولف مأساة السجن المجتمعي للتجارب الفكرية الأنثوية، ويتضح أن تلك المعاناة جعلت المرأة في صراع دائم مع طموحها الذي يُبدد بسبب المجتمع الذكوري، وهو لا يبالي بإنجازات المرأة وبقدرتها الفكرية؛ فلجأت بعض النساء إلى التخفي وراء اسم مستعار لرجل لتعفي نفسها من الحكم المجتمعي المؤلم، وحفاظاً على ماء وجهها في الساحة الأدبية.
وقد بقيت فرجينيا وولف لزمن طويل تكتب تحت عنوان :» مجهول»و قد اشتهرت عبارة للكاتبة و أضحت على مرّ العصور شعاراً للحركة النسوية حين كتبت « المرأة بحاجة إلى المال و إلى غرفة نظيفة كي تتمكن من كتابة أعمال أدبية من الخيال» و تلك العبارة الشهيرة تعكس مدى الصعوبات التي تعترض المرأة الكاتبة في عالم يسيطر عليه الرجال.
وبالرغم من ذلك استطاعت فرجينيا وولف جعل أعمالها الأدبية محط اهتمام من العالم أجمع بسبب قوتها الفكرية والإبداعية، فقد أجادت الحكي عن الصراع الداخلي للنفس البشرية ببراعة، واستغلت دوافع الاكتئاب المرضي لديها في ثراء تراثها الأدبي العظيم.
لم تكن تدرك مي زيادة ، الكاتبة المبدعة، صاحبة أشهر صالون أدبي في القرن العشرين، كان يتحلق فيه أدباء كبار. ووصفه طه حسين» كان صالوناً ديمقراطياً مفتوحاً، وأعجبني منح اتساعه لمذاهب القول وأشتات الكلام وفنون الأدب» أن المطاف سينتهي بها في مستشفى للأمراض العقلية قبيل وفاتها بثلاث سنوات. وبعد خروجها من مستشفى الأمراض العقلية، عانت مي الوحدة والعزلة والألم حتى توفيت في القاهرة عام 1941، ولم يمشِ في جنازتها سوى ثلاثة ممن كانوا يأتون إلى صالونها الأدبي، وهم: أحمد لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان جميل.
في كتابها الصادر حديثاً ( حليب أسود ) للروائية التركية اليف شافاق، تتسائل « أيُمكن لشاعر وشاعرة أن يُغرَم أحدهما بالآخر مِن دون تنافس بينهما على المدى البعيد؟ المؤكد أن هذا ليس مستحيلاً، لكنه صعب» في إشارة لها لحياة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلات زوجة الشاعر البريطاني تيد هيوز. على الرغم من أن سيلفيا بلاث كانت شاعرة رائعة تتميز قصائدها بحساسية عالية وبقدرٍ كبير من الإبداع، فإنها عانت خلال حياتها مختلف مشاعر القلق بخصوص الأنوثة والأمومة. وعندما رزقت بأطفال استبد بها القلق من العالم الخارجي. في ذلك الوقت كان زوجها يواصل حضور المناسبات الثقافية واستمر في كتابة الشعر وإقامة علاقات جديدة في مجال الإبداع الأدبي وتعزيز شهرته.كانت سيلفيا تراقب كلّ هذا بحسد وتشاؤم وقلق لم تخفِه حتى في قصائدها نفسِها. بعد طلاقها من تيد هيوز، قررت أن تجمع شتات نفسها، فكتبت أجمل قصائدها في تلك الفترة. كانت تكتب كثيراً وفي كلّ مكان وبلا هوادة، تكتب بحبّ وبصدق من دون أن تنسى أنها أم أيضاً. «كانت تريد أن تكون بارعة في كلّ شيء: أم وربة بيت وكاتبة وشاعرة»، تقول إليف شافاق في «حليب أسود».
ُنهِكت بلاث بسبب رغبتها في أن تكون مثالية. كانت حينها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها. بعد أن تأكدت من نوم طفليها الاثنين، تركت لهما حليباً وخبزاً وأغلقت باب غرفتهما، محكمة سد كلّ الشقوق فيها، ثم توجهت إلى المطبخ، وفتحت الفرن، وتناولت حبوباً منومة، ثم حشرت رأسها في الفرن، ونامت إلى الأبد.
حينما التقت زيلدا فيتزجيرالد زوجها الكاتب الشهير سكوت فيتزجيرالد، كانت زيلدا امرأة مبدعة وذكية وثاقبة النظرةإلى العالم، لدرجة أن سكوت عندما سُئل عن طموحاته ذات مرة قال: كتابة الكثير من الروايات والاستمرار في حبّ زوجتي العزيزة إلى الأبد». لكن الأمور لم تجرِ كما كانا يتمنيان، فقد تحولا بسرعة إلى غريمين، يتنافسان في مجال الأدب ويدمر أحدهما الآخر كنتيجة. زعم عديد من الناقدين أن كثيراً من أفكار زيلدا التي كانت تكتبها في يومياتها انتهى بها المطاف في روايات زوجها الشهيرة. وكتبت زيلدا نفسها مقالةً عن إحدى روايات زوجها في صحيفة نيويورك تريبيون قالت فيها: «يبدو لي أنني استدللت في إحدى الصفحات على جزء من يومياتي القديمة التي اختفت على نحو غامض بعد زواجي بوقت قصير… الحق أن السيد فيتزجيرالد -وأظن أنه كان يكتب اسمه على هذا النحو- يبدو مؤمناً بأن السرقة الأدبية تبدأ من المنزل». ولم تُحسَم قضية «السرقة الأدبية» في حياة سكوت وزيلدا بين النقاد الأدبيين حتى الآن. وفي الوقت الذي كان يلمع فيه نجم سكوت أصيبت زيلدا بانهيار عصبي وهلوسات وحاولت الانتحار. ثم جرى تشخيصها بالانفصام، وأمضت ثمانية عشرة عاماً من حياتها تحت رعاية أطباء نفسانيين حتى توفيت عام 1948، تاركة بعض الإرث الأدبي الذي كانت مادته مستمدة من مرضها النفسي.
وفي الوقت الذي تأججت بينهما الخلافات كانت شهرة سكوت تزداد يوماً بعد يوم. «ومما يبعث على الدهشة أن الشخصيات التي كتب عنها والموضوعات التي عالجها كانت من بنات أفكار زيلدا، بل إن بعض شخصياته كانت تتكلم على النحو الذي كانت تتكلم به زيلدا. هل سرق الأفكار من زوجته؟ وهل سلب منها بعض كتاباتها»، تتساءل إليف شافاق في «حليب أسود».
وقائمة الأسماء النسوية في الأدب ذات الأسماء المستعارة تطول وتطول. ولا سبيل لذكرها في تلك العجالة. ولكنها ما زالت مستمرة حتى يومنا حالات الأسماء المستعارة حيث تخفي المرأة هويتها الجندرية تحت اسم مذكر … و أكبر مثال على ذلك هو كاتبة سلسلة ( هاري بوتر) و هي من الكتب الأكثر مبيعا حيث رأت الكاتبة أنه من الأفضل استخدام أولى الحروف من اسمها J.K ROWLING. و أخفت أن اسمها هو Joanne ، الكاتبة تعتبر أن قصة هذا الساحر العالمي تتوجه إلى القراء الشباب و الذكور. وبالتأكيد لن يقبلوا اسماً نسوياً موقع على غلاف الرواية.
العدد 1122 – 29-11-2022

آخر الأخبار
دخل ونفقات الأسرة بمسح وطني شامل  حركة نشطة يشهدها مركز حدود نصيب زراعة الموز في طرطوس بين التحديات ومنافسة المستورد... فهل تستمر؟ النحاس لـ"الثورة": الهوية البصرية تعكس تطلعات السوريين برسم وطن الحرية  الجفاف والاحتلال الإسرائيلي يهددان الزراعة في جنوب سوريا أطفال مشردون ومدمنون وحوامل.. ظواهر صادمة في الشارع تهدّد أطفال سوريا صيانة عدد من آبار المياه بالقنيطرة  تركيا تشارك في إخماد حرائق ريف اللاذقية بطائرات وآليات   حفريات خطرة في مداخل سوق هال طفس  عون ينفي عبور مجموعات مسلّحة من سوريا ويؤكد التنسيق مع دمشق  طلاب التاسع يخوضون امتحان اللغة الفرنسية دون تعقيد أو غموض  إدلب على خارطة السياحة مجدداً.. تاريخ عريق وطبيعة تأسر الأنظار سلل غذائية للأسر العائدة والأكثر حاجة في حلب  سوريا تفتح أبوابها للاستثمار.. انطلاقة اقتصادية جديدة بدفع عربي ودولي  قوات الأمن والدفاع المدني بوجٍه نيران الغابات في قسطل معاف  قضية دولية تلاحق المخلوع بشار الأسد.. النيابة الفرنسية تطالب بتثبيت مذكرة توقيفه  بعد حسم خيارها نحو تعزيز دوره ... هل سيشهد الإنتاج المحلي ثورة حقيقية ..؟  صرف الرواتب الصيفية شهرياً وزيادات مالية تشمل المعلمين في حلب  استجابة لما نشرته"الثورة "  كهرباء سلمية تزور الرهجان  نهج استباقي.. اتجاه كلي نحو  الإنتاج وابتعاد كلي عن الاقتراض الخارجي