من العالم..حسن أوريد: الرواية التاريخية في مأمن من الرقابة

الملحق الثقافي:

في حوار مهم أجراه السيد حسين مع حسن أوريد عن الرواية التاريخية يقول المحاور في بداية الحوار
يعد المفكِّر والكاتب المغربي حسن أوريد من بين أهمّ الشخصيات السياسية والفكرية البارزة في المغرب. عُيِّن مستشاراً في سفارة المغرب في واشنطن، قبل أن يُعَيَّن، عام (1999)، ناطقاً رسمياً باسم القصر الملكي حتى يونيو/ حزيران (2005)، وتَمَّ تعيينه، لاحقاً، محافظاً (والياً) على جهة مكناس، قبل أن يصبح مؤرِّخاً للمملكة في نوفمبر/تشرين الثاني (2009)، وظلّ في ذلك المنصب لمدّة عام واحد.
صدر لحسن أوريد الروائي: «الحديث والشجن»، «الموريسكي»، «صبوة في خريف العمر» و«سيرة حمار»، بالإضافة إلى ديوانين شعريَّيْن هما «يوميّات مصطاف»، و«فيروز المحيط»
في هذا الحوار، يتحدَّث حسن أوريد عن تجربته السردية، وموقفه من الجدل الذي أثارته بعض رواياته، كما يطرح توقّعاته المستقبلية على ضوء الوضع الراهن، وتراجع دور المثقَّف في العالم
ما الهاجس الذي يدفعك للكتابة؟، ولماذا تكتب؟، وماذا تنتظر؟


– أعتقد أن ما يطبع من يختار الكتابة هو القلق الوجودي. نعم أنا شخصية قلقة. شخصية مسكونة بالسؤال؛ ولذلك أنقل جزءاً ممّا يعتمل في ذهني إلى المكتوب، وهذه العلمية هي نوع من الترويح، أوما يسمّى، في العلوم النفسية بـ«التطهير النفسي – catharsis» في أصلها الإغريقي، وأعتقد أن ما نحتاجه، في مجتمعاتنا، هو السعي للفهم. الفهم متعة كما يقول «سبينوزا».
كيف تقرأ ما يعيشهُ العالم، اليوم، من منطلق فكري؟
– لن أضيف جديداً ممّا قيل وكُتِب. البشرية على مشارف تحوُّل عميق. أعتقد أن أهمّ ما طرأ على البشرية، في العشرين سنة الأخيرة، هو الانترنت الذي محا المسافة، وخلق ثورة رقمية غير معهودة، ثم جائحة «كوفيد – 19» التي قلبت الموازين كلّها. كيف يُتَصوَّر أن يعيش نصف البشرية في الحجر الصحّي؟ أكيد أن التداعيات الاقتصادية لجائحة «كورونا» ستكون كبيرة، لكن أثرها لن يكون اقتصادياً فقط. أبانت الأزمة على ضرورة الدولة، وعلى حَدّ ضروري من الاستقلال الاقتصادي. على المدى القصير، ستعيش البشرية ظروفاً صعبة، كما حال المدمن حين يُحرم ممّا اعتاد أن يتعاطاه، لكني أعتقد، أننا، على المدى المتوسِّط، سننتهي إلى ضبط الاختلالات الناتجة عن عولمة من غير ضوابط، وننتهي إلى التمييز بين المال والثروة، وهذا- في تصوُّري- شيء مهمّ.
ما وقعُ هذا الوباء على الفكر البشري؟
– هناك سابقة الطاعون الأسود، في أوروبا، في القرن الرابع عشر الميلادي. لقد كانت تحوُّلاً في مسار أوروبا. حدّ الطاعون من نظرية القدَر، وما كانت تدعو له الكنيسة من الخضوع والاستسلام لواقع الحال. أخذت سلطة الكنيسة تتقلَّص جرّاء الوباء. لربّما أننا نعيش هيمنة كنيسة من نوع جديد، وهي المؤسَّسات الماليّة التي تتكلَّم باسم الدين الجديد (أعني الاقتصاد) من أجل الثواب الجديد الذي هو الربح. لا بدّ أن نُخضِع الاقتصاد للفكر، فالاقتصاد في خدمة الإنسان، لا الإنسان في خدمة للاقتصاد.
في تصوُّرك،، هل سيتغيَّر حال العالم بعد الخلاص من هذا الوباء؟
– نعم سيتغيَّر. رؤًى كثيرة كانت بمنزلة يقينيّات، أصبحت موضع تساؤل. لكن السؤال المهم ليس في تغيُّر سُلَّم الأولويّات والقيم والخيارات، ذلك أن الغرب انتقل من الليبرالية المفرطة في بداية القرن الماضي حتى حدود أزمة (1929)، ثم إلى الدول المتدخِّلة مع نظرية «كينز»، ليعود مع المدرسة الاقتصادية الليبرالية إلى شيكاغو، إلى النيوليبرالية. الذي سيغيِّر ليس النظريات أو الأيديولوجيا، أوسُلَّم الأولويات، فقط، بل أوضاع الفاعلين. هل ستبقى هينة الغرب مستمرّة؟ هل ستبقى المجموعة الأوروبية متَّحدة؟ وهذه التغييرات ستؤثِّر في العالم العربي، الذي سيتغيَّر كذلك. وأتمنّى أن يتغيَّر إيجابيّاً.
ما تقييمك للحركة الثقافية والمشهد الإبداعي في المغرب؟ وهل هي قادرة على استيعاب كلّ التجارب الإبداعية؟
– قد لا يكون حكمي موضوعياً. ربّما نعيش ما يعيشه العالم من ضمور الثقافة الهادفة والرصينة، لفائدة ثقافة المتعة والتسلية. غلبت علينا المهرجانات، وقَلَّ الفكر، ولا أرى أن تنفصل الثقافة عن الفكر.
هناك من يتحدَّث عن تراجع دور المثقَّف المغربي، مقارنةً بالستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات. كيف ترى وضع الثقافة والمثقَّفين، ودرجة تأثيرهم في حاضر البلد، بشكل خاصّ؟
– تراجع دور المثقَّف المغربي مثلما تراجع دور المثقَّف في العالم. أزاح الخبير الذي يحمل أجوبة أو خبرة دور المثقَّف الذي يطرح الأسئلة، كما أزاح الصحافي، بحضوره المكثَّف، دور المثقَّف الذي ينبغي أن يرسم مسافة مع الأشياء والأشخاص والظواهر، والذي عليه أن يتروّى قبل أن يصدر حكماً، على خلاف الصحافي، أو المحلّل الصحافي الذي هو تحت ضغط الأحداث.
هذه كلّها معطيات موضوعية حدّت من دور المثقَّف عموماً، ويضاف إلى ذلك تراجع الجامعة. أوضاع الجامعة في المغرب (ولا أستطيع أن أتكلَّم عن أوضاعها في بقيّة بلدان العالم العربي، ولكني أقدّر أنها متشابهة) ليست في مستوى ما نطمح إليه، فكيف يمكن أن يبرز المثقَّف إن لم تكن هناك بنية حاضنة ؟
يمكن أن أضيف عاملاً، هو الثقافة السياسة في المغرب كما في العالم العربي، والتي تغيَّرت في العشرين سنة الأخيرة. توارى الفكر النقدي لصالح أفكار عامّة من قبيل المسلَّمات، أو المعتقدات، وطغيان خطاب الهويّة. خطاب الهويّة لا يساعد في ظهور فكر، بل في بروز نشطاء. وحدث شيء آخر في المغرب، وربّما في الجزائر، هو انشطار ما بين المثقَّف المُكوّن باللّغة العربية، والمثقَّف المكوَّن باللّغة الفرنسية، في حين كان الجيل السابق يتقن، في الغالب، اللُّغتين، ولم يكن ثمّة تنافر بينهما، وكان أغلب المثقَّفين المغاربة، قبل جيل، يكتبون بالعربية، ويتقنون الفرنسية التي كانت مصدر غنًى، وكانوا يرتبطون بما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي «ليوتار» بالسرد الكبير، أي مرجعية سياسية وفكرية ناظمة. غياب السرد الكبير أو المرجعية الفكرية والسياسة، أدَّيا إلى ضمور دور المثقَّف. هذه، في اعتقادي، بعض الأسباب لتراجع دور المثقَّف المغربي.
حدِّثنا عن روايتك «رباط المتنبّي» التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» (2020)؟
– كتبت رواية «رباط المتنبّي» وفاءً لشيء اعتَوَر حياتي الدراسية، وهو أن المتنبّي كان جزءاً من التربية التي تلقَّيتها. في مسرى الحياة الثقافية، ننتقل من مستعير إلى شخص عليه أن يفي بالدَّين؛ لذلك كان لزاماً عليَّ أن أؤدّي دَين ما تلقَّيته. لكن المسألة مرتبطة بشيء أعمق من الوفاء بدَيْن، وهو السؤال: هل يمكن للتراث أن يكون حلّاً؟ من منظوري، التراث ليس حلّاً ولا عبئاً. يمكن أن يساعدك كأرض صلبة تضع عليها قدمك، ولكنّ ذلك لا يمنع من السير قُدماً، ولكن شريطة استعادة التراث، والاستعادة تتمّ من خلال قراءة نقديّة له، كما أن التراث ليس عبئاً مثلما كان ينادي أصحاب الطاولة الجرداء، أو من انتصبوا ضدّ التراث والتقاليد؛ ولذلك كانت روايتي حواراً ومساءلة بين بطل الرواية والمتنبّي، وقد حَلَّ في عصرنا عند مثقَّف من المغرب، أو رباطه، ويُجْري كلاهما قراءة نقدية للثقافة العربية.
كم من الوقت استغرقته في كتابة رواية « رباط المتنبّي»، وجمع المادّة الخاصّة بها؟
– كتبته على مرحلتَيْن؛ المرحلة الأولى في أثناء صيف (2017)، وهي تحوي القسم الأوّل عموماً، ثم توقَّفت بعدها. لم يسعفني الخيال، وكدت أعدل عن العمل. حين بدأت العمل كنت في عطلة صيفية بشاطئ مدينة الجديدة جنوب الرباط، وصحبت معي ديوان المتنبّي، وكتاب طه حسين عنه، وكنت أقرأ ما أكتب لصديق كان استضافني في بيته مع زوجته، لقضاء عطلة الصيف.أشتغل صباحاً، ثم نذهب، سويّاً، إلى مطعم شعبي لتناول السمك، فيسألني: أين وصل المتنبّي؟، فنمزح. عدت من العطلة، وتوقَّفت عن العمل، وحدث أن مات ذلك الصديق في يناير (2018)، وأصبحت الكتابة عن المتنبّي وفاءً لذكرى ذلك الصديق الذي لم يُتَحْ له أن يقرأ عملي. عدت برؤية أخرى، وقد يلاحظ القارئ تمايز القسمَيْن؛ الأوَّل والثاني. لو كنت في وضع عاديّ لربّما تريَّثت قبل أن أنشره، لأن فيه، أحياناً، طريقة فجّة في الحكم على قضايا معيَّنة. لم أرسم مسافة كافية مع ما كتبته لأوَّل وهلة. أعتقد أن على الكاتب، لمّا يفرغ من عمل ما، أن ينساه لكي يعود إليه بنظرة أخرى. أنا لم أقم بذلك. كانت لي أولويّات؛ هي الوفاء لذكرى صديق باستكمال ما بدأته عن المتنبّي.
الإشكاليات التي من الممكن أن تقابل من يتصدّى لكتابة رواية تاريخية، من وجهة نظرك؟
– ليس هناك إشكالية مخصوصة. في «الموريسكي» وهو عمل طبعته الهيئة العامّة للكتاب في مصر، مشكورةً، أطرح قضية إنسانية لمُهجّرين من الأندلس، ويمكن أن تكون قصّة أي مُهجّرين آخرين في الزمان والمكان. وأعتقد أني أسهمت في التعريف بهذا الفصل التراجيدي، وهناك عدّة كتابات إبداعية عن مأساة المهجَّرين الأندلسيِّين هنا في مصر، وهي أكثر من أن يحصيها العدّ، منها- على سبيل المثال- «ثلاثية غرناطة» للمرحومة رضوى عاشور، وهو عمل جبّار ورائع. لكني، إلى جانب ذلك، طرحت في رواية «الموريسكي» قضية المثقف والسلطة، وتصادم الحضارات. طبعاً، من منظوري، لا معنى للرواية إن لم تطرح قضايا فكرية. نحن مجتمعات تعيش وضعاً انتقالياً، ويتعيَّن أن نفكِّر في الواقع، ونجري نظرة نقدية على الماضي كي نستطيع أن نبني المستقبل. لا أكتب من أجل الإمتاع والمؤانسة.
روايتك «رواء مكة» أثارت، أيضاً، الكثير من الجدل؟
– لم أبحث عن الإثارة، ولم أسعَ إليها. العمل ليس رواية، بل يمكن أن نعتبره رحلة وجدانية. المبدأ الذي أنطلق منه هو أن العمل، حين يُنشَر، يصبح مُلْكاً للقرّاء، أو ما يسمِّيه الناقد الفرنسي «رولان بارث» موت الكاتب. الناس أحرار في قراءته، لكني كنت أتمنّى لو أمسَك بعض الأشخاص عن النيل من شخصي، وأن يوجِّهوا نقدهم للعمل لا للشخص.
هل تسعى أعمالك الروائية مثل «رباط المتنبي»، و«الحديث والشجن»، و«صبوة في خريف العمر»، و«الموريسكي»، و«سيرة حمار»، و«الأجمة». و«رواء مكة» إلى طرح الأسئلة، أم إلى محاولة الإجابة عليها؟
– لا، ليس بالضرورة. المجال الذي أطرح فيه الأسئلة هو الكتابات الفكرية. لئن كنت أطرح قضايا فكرية، في أعمالي الروائية، فلا يمكنها أن تتحوَّل إلى أعمال فكرية بحتة. سيفقدها ذلك رونقها، والغاية من كل عمل روائي هي المتعة. على خلاف الأعمال الفكرية، حيث نتوخّى الفائدة، أوَّلاً، أرى أن الأولويّة التي ينبغي أن ينصرف إليها العمل الثقافي، في مجتمعاتنا، هو الفكر. هو الأولوية، وطرح الأسئلة العميقة: لماذا نحن في الوضعية التي نحن فيها؟ لِمَ تعثَّرت مشاريع التحديث؟ ما العوائق؟ وهذا من صميم عمل المفكِّر، أمّا التكنقراطي فيأتي بأجوبة جاهزة، بناءً على خبرته. لم أقل، قطّ، إننا غير محتاجين للتكنقراط، ولكني ضدّ الخلط في المهامّ؛ أي حين ينتحل التكنقراط دور المثقَّف. المعادلة في العمل الروائي، من منظوري، هي المزج بين قضايا فكرية مع جانب المتعة. هل وُفّقت؟ لا أدري. أترك للقارئ أن يحكم.
العدد 1124 – 13-12-2022

آخر الأخبار
تسريع إنجاز خزان المصطبة لمعالجة نقص المياه في صحنايا صيانة 300 مقعد دراسي في مدرسة المتفوقين بحمص صيانة 300 مقعد دراسي في مدرسة المتفوقين بحمص معالجة التعديات على عقارات المهجرين.. حلب تُفعّل لجنة "الغصب البيّن" لجنة فنية تكشف على مستودعات بترول حماة الشمس اليوم ولاحقاً الرياح.. الطاقات المستدامة والنظيفة في دائرة الاستثمار صياغة جديدة لقانون جديد للخدمة المدنية ..  خطوة مهمة  لإصلاح وظيفي جذري أكثر شفافية "الشباب السوري ومستقبل العمل".. حوار تفاعلي في جامعة اللاذقية مناقشات الجهاز المركزي مع البنك الدولي.. اعتماد أدوات التدقيق الرقمي وتقييم SAI-PMF هكذا تُدار الامتحانات.. تصحيح موحّد.. وعدالة مضمونة حلاق لـ "الثورة": سلالم التصحيح ضمانة للعدالة التعليمية وجودة التقييم "أطباء بلا حدود" تبحث الواقع الصحي في درعا نهضة جديدة..إقبال على مقاسم صناعية بالشيخ نجار وزير الخارجية اللبناني: رفع العقوبات عن سوريا يساعدها بتسريع الإعمار ترميم قلعة حلب وحفظ تاريخها العريق محافظ درعا يتفقد امتحانات المعهد الفندقي "الطوارئ والكوارث": أكثر من 1500 حريق و50 فريق إطفاء على خطوط المواجهة دول الخليج تتوحد في تقديم المساعدة والاستثمار في سوريا واشنطن تتحدث عن السلام.. هل يلتزم الاحتلال الإسرائيلي بوقف اعتداءاته؟ سوريا تطلق إصلاحات السوق لجذب المزيد من الاستثمارات وتحفيز إعادة الإعمار