الملحق الثقافي- حسين صقر:
بأنظار مشدوهة، وآذان مصغية، ودهشة ملفتة، لغرابة بعض التفاصيل التي تمر أثناء سرد الحكاية، نجلس لساعتين متواصلتين أو أكثر لسماع الأحداث التي كانت تروى أمامنا، حيث تأخذنا الحكاية إلى عوالم نرسم لها معالم في خيالنا كيفما نشاء، ونتصور أشخاصها وهيئاتهم وصفاتهم، وكيف كانوا يتصرفون.
فالحكايات الشعبية، وعندما يروبها أصحابها والتي تحمل في طياتها المثل واللغز والعبرة أو الموعظة، وذلك بشكل شفهي يرويها كلّ بأسلوبه، ومنهم من يضيف عليها الكوميديا ومنهم من يلونها بالأحزان، وكلّ حسب طريقته ونهجه في التعبير والحركة، ولهذا تتوارثها الأجيال، دون معرفة مؤلفها أو مؤرخها وحافظها الأول.
وتلك الحكاية إما أن تكون طويلة أو قصيرة، وربما تمتد لعدة جلسات، وهي ذات طرح تقليدي، وشكل نمطي، تتناول الإنسان والحيوان والجن والخرافة، بطريقة غريبة، وتستمدّ مادتها من الواقع حيناً تتم المبالغة فيه، ومن الخيال في أحيان أخرى، وتُعدّ جنساً أدبياً قائماً بذاته، وتنقسم إلى ما هو اجتماعي وديني وسياسي، وأياً كان نوعها فهي هادفة بالتأكيد وما قيلت إلا لبلوغ غاية.
و بالإضافة إلى تشابه مضامين الحكاية في أبعادها الاجتماعية و الدينية والأسطورية، والذي ينتج عن البيئة كطبيعة مولدة للحدث ومصورة للمشهد، انطلاقاً من الطريق والمنزل والحي والشجرة والأرض وكلّ ما يرتبط فيها، من نبات وحيوان وإنسان، وكلّ ما يتجلى فيها من وحشة الليل وبرودته أو هدوئه أو نقاء النهار وشمسه وبرودته، وحركة الناس المفعمة بالنشاط والحيوية، تتحد هنا وهناك، الشخصيات وتتقاطع بالقيم والمفاهيم، والعلاقات والأحزان والآلام والأفراح.
والحكاية الشعبية تتحدث عن ثنائية الخير والشر، حيث ينهزم هذا الأخير، إلا في بعض الحالات التي تروي فيه واقعاً حقيقياً، فيترك فيه الخيار للمستمع أو المتلقي لوضع النهاية التي يريدها.
ومنها ما يساعد على تهذيب النفس، ويحث على الخلق الرفيع، ويعمل على تعديل السلوك، عبر الوعظ والعبرة من خلال الاستفادة من سلوك الشخوص والأحداث.
غير أن الكثير من هذا الموروث الشعبي ضاع مع السنين، بسبب ندرة التدوين وتأخره، و بسبب الاستعاضة عنه بوسائل الترفيه والاتصال والتكنولوجيا، من تلفزة وسينما وإنترنت وغيرها.
اليوم وفي ظل انتشار تلك الوسائل باتت الحاجة ملحة لإحياء هذا الجنس من الأدب والثقافة، ولاسيما بعد أن بدأت أصابعنا هي التي تتكلم، وألسنتنا التي تكتب، ومن جهة ثانية فهي موروث راق، يهدف للتسلية والامتاع، والتثقيف ولهذا فهي خزان فكري وثقافي واجتماعي وقانوني وغير ذلك.
وتلك الحكايات تعيدنا إلى الماضي في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، فهي مساحة جيدة للإطلالة نحو الماضي كفترة راحة على الأقل، فضلاً عن ذلك إنها توفر ذاكرة جمعية، ترسّخ الهوية، بعيداً عن شوائب التأثر والاختلاط الذي يوفره عالم القرية الصغيرة اليوم، ما يساعد في العودة إلى أرشيف يحفظ اللغة والثقافة والعادات.
وبالإضافة لما سبق فالحكاية الشعبية هي مجال للاطلاع على العادات والتقاليد القديمة التي تعكسها طرق العيش والمعاملات، وطقوس المناسبات، وما تعلّق بالمأكولات والألبسة والأثاث، وبمكن أن تزود المتلقي عن هذا التراث بما يتعلّق مثلاً بالدراسات النفسية للإنسان القديم، وعبقريته وطريقة تفكيره، وغير ذلك فيما يمكن البحث فيه، واستنباط الأفكار والفائدة والمعلومة منه.
و ما من شك أنّ السعي لحفظ هذا الموروث اليوم يجب ألّا يخرجه من شفاهيته بقدر ما ينبغي أن يضيف وسائل أخرى لتحقيق هذا الحفظ، في غمرة الانشغال عنه اليوم بهذا الزخم الكبير من وسائل الترفيه والمتعة والاتصال والتواصل، ويتوجّب معه أيضاً “عزل” ما سلم من نوائب الدّهر، وما لم يرحل بعدُ مع الراحلين على مدى السنين الطويلة التي لم يكن فيها التّدوين، والمدونين الذين يتقلّصون يوماً بعد يوم في عصر الكتابة والتسجيل، ولهذا يجب استدراك ما يمكن استدراكه من المسنّين الذي يحملون معهم ما تيسّر من القصص والحكايات، وتسخير كلّ الوسائل لاستنطاق المعروفين منهم خصوصاُ بهذه المَلَكة، كذلك تسخير كلّ الوسائل المحلية لخدمة هذا الغرض.
ولحفظ الحكاية لابدّ من الطبع والنشر والتوزيع حيث ينبغي هنا الانتباه إلى أهميّة النأي بهذا التراث عن محاولات العصرنة التي تفرغه من أصالته وعراقته التقليدية العتيقة، كأن يُتناول بتقنيات الرواية أو القصة كما هو متعارف عليهما، والعمل على إدراج الحكاية الشعبية ضمن المناهج الدراسية، سواء للناشئة، من خلال القراءة، أو حتى في الترفيه من خلال”الحكواتي”، أو في المراحل المتوسطة من الدراسة على اعتبار هذه الحكاية جنس أدبي قائم بذاته. وحتى في المراحل المتقدمة من العمر الدراسي للطالب، بالتشجيع على أخذ جانب معين من هذا التراث في البحوث الجامعية.
كذلك استحضار الحكاية الشعبية في الأعمال المسرحية، والمتلفزة كما نشاهد في الأعمال الدرامية، وتنظيم الملتقيات والمهرجانات التي تتناول تلك الحكاية متناً ونقداً، لإنعاشها، بإثارة الانتباه إلى ما تقدّمه من فائدة لا تقف عند حد معين، بل تضع هالة ضوء على الأبعاد المختلفة، وتشير إلى دور هذا التراث في حفظ الملامح المحلية في أكثر من مجال.
العدد 1126 – 3-1-2023