الثورة- حسين صقر:
منذ وقوع كارثة الزلزال ونحن نتحدث عن التضامن والتكافل الاجتماعي، والطيبة والمبادئ القيّمة التي يتميز بها السوريون على امتداد ساحات الوطن الذي أنهكه الإرهاب المدبر والممنهج، وظواهر الطبيعة، لنفاجأ أن أكثر أصحاب مهنة إنسانية عند البعض لاتهمهم تلك القيم ولاتعنيهم بشيء، ولاسيما أن البلاد جريحة وتعاني الحصار الجائر ، فضلاً عن الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعانيها المواطن.
مهنة الطب تلك هي المهنة الأكثر إنسانية، نرى بأن البعض أيضاً ممن يزاولونها، ليس بهدف إنقاذ روح أو التخفيف من آلام مريض، بل لتحقيق المزيد من الربح والتجارة بتلك الأرواح، وإلا ماذا يعني أن يتقاضى طبيب ما أجرة معاينة لم تستمر لأكثر من عشر دقائق أربعين ألف ليرة أو خمسين وهناك لولا الخجل لتقاضى أجرته بالعملة الصعبة، وذلك دون أي وازع أخلاقي، ثم يحصل على نفس الأجرة أثناء المراجعة، وكأنه يؤكد أن لارحمة في قلبه، ولا يعالج قلباً ضعيفاً أو مصاباً بذلك، مع أن النقابة وضعت لائحة بأجور المعاينة، ولكن المريض لا حول له ولاقوة، لأنه يريد العلاج حتى لو استدان لسداد قيمة الكشفية، وبالعودة لعلاج القلب مثلاً، كثيرون يمكن أن يُصابوا بمضاعفات وانسداد شرايين وربما جلطات نتيجة ارتفاع الأجرة.
وعندما تحتج أو تتجرأ بالقول: لماذا الأجرة عالية، يقابلك أحدهم بامتعاض وسخرية، وكأنه يقول لك: عندما كنا ندرس ونسهر الليل لم يكن أحد معنا ويعاني تعبنا وسهرنا ذلك على القراءة والمتابعة، ونحن نقول له: عسى أن يبارك الله فيك وبنجاحك ومن درجة علمية لأعلى، لكن رفقاً بالناس والمرضى، من أجل الحفاظ على قيمنا، فتلك الأرواح أمانة في عنقك منذ دخولها العيادة، ولا تجعل من الربح المادي هدفك الوحيد، فهناك ربح معنوي وسمعة طيبة ومثقال من الحسنات قد تسجل في ميزان أعمالك فيما لو شعرت بغيرك.
أطباء القلبية طبعاً ليس هم الأمثلة على الارتفاع الجنوني، وهناك أطباء باختصاصات أخرى، وهنا لابد من الحديث عمن يتقاضون أجرة فوق بطاقة التأمين، في الوقت الذي تكون فيه قيمة التحمل الشخصي صفراً، أي كامل المعاينة على البطاقة، وكي يشعرك بأنه طبيب إنسان يأخذ ثلثي أجرة المعاينة منك، ويترك الثلث، ويسجل البطاقة، لتصبح المعاينة فوق ما يأخذ عادة أجرة كاملة أو أقل بقليل.
بالمقابل هناك أطباء ترفع لهم القبعة، وهؤلاء أطباء “بشريون إنسانيون ” وتنطبق عليهم كل صفات الرأفة والحنان والإحساس بالآخرين وأمثلتهم كثيرة، وموقع ” الثورة” الالكتروني وصفحات الجريدة عندما كانت تصدر بالنسخة الورقية أشادت بهؤلاء وتحدثت عنهم وشكرتهم على حُسن معروفهم وصنيعهم، لهؤلاء ننحني احتراماً لتلقيهم أجرة رمزية وأجراً معنوياً وربما لايتقاضون شيئاً، ولا نقول طبعاً: بأن الطبيب يجب ألا يتقاضى أجره، لأن مهنته كأي مهنة وهو يعتاش منها، ومن حقه لكن بالمعقول.
أعرف أطباء وأجاور آخرين وأسمع عن الكثيرين، لو أن هدفهم كان مادياً لأصبح عندهم أطياناً وأملاكاً وعقارات، هذا لو أرادوا أن ينحوا المنحى المادي، لكن فضلوا الاكتفاء بما يقضي حاجتهم ومعيشتهم ومنازلهم وسياراتهم، دون التطلع للثراء والربح الفاحش.
في البلاد المتقدمة، يدفع الطبيب ضرائب على دخله، وكلما ارتفع ذلك الدخل، زادت تلك الضريبة أسوة بأي موظف أو عامل بالخدمة، والسؤال ماذا يدفع الطبيب من هذه الضرائب سوى اشتراكات النقابة التي ينتمي إليها، وهذه يدفعها من أجله، ولأجل نهاية أجله، لأنه لايتقاعد، ومستمر بعمله مادامت صحته البدنية والعقلية تساعده على ممارسة المهنة، وبالتالي لا يحق له بتقاضي أجرته كيفما اتفق، ودون أي رقابة، خاصة وأن الظروف المعيشية في أسوأ حالاتها.
أعرف صديقاً زار الطبيب في أول الشهر وبعد قبض راتبه، دفع سبعين ألفاً بين معاينة وثمن الوصفة، وقضى شهره بما تبقى من ذلك الراتب أي أقل من خمسين ألفاً، وما استدانه من المحسنين والغانمين، ومن له ديناً على باب الدار واقف.
نعيش اليوم كوارث الحروب والإرهاب والزلازل، وإذا لم نشعر ببعضنا، لن ننتظر ذلك الإحساس من الآخرين، مع أن بعض هؤلاء الآخرين لم يقصروا، ووقفوا مع السوربين في محنة الزلزال، ولهم كل الشكر والعرفان، لكن حري بأبناء البلد أن يتكافلوا ويتضامنوا والأطباء على رأسهم، لأنهم هم الوحيدون الذين يستطيعون المساعدة دون رأس مال مادي، إذا نسينا إلى حد ما بعض الأجهزة والمعدات التي جهزوها في عياداتهم، واستردوا ثمنها منذ زمن، هذا فيما يخص من مضى على مزاولتهم المهنة فترة طويلة.
قد يقول قائل: وماذا عمن امتهن الطب من جديد، نقول: السلم أو الدرج لايمكن قطعه بخطوة واحدة.. مازالت الأيام أمامكم..