الجوائز الأدبية، ومسابقاتها.. وصناعة الكتاب.. والمنافسة، والتحكيم.. ومعايير الارتقاء بأدب الأطفال.. كلها عناوين مثيرة للاهتمام.. وتدفع إلى التوقف عندها ولاسيما أن ساحة أدب الأطفال أصبحت مرتعاً خصباً للتأليف، والنشر، وساحة متسعة للجوائز التي ترصد.
ونحن لا نستطيع أن نصنف كل القصص، والحكايات التي أبطالها من الصغار كقصة (حي بن يقظان) مثلاً، وقصة (روبنسون كروزو) المأخوذة عنها، وسواهما على أنها من أدب الطفولة، حتى كتاب (أميل) لجان جاك روسو إنما هو كتاب في التربية، وما ملحمة (رونار الثعلب) لغوته إلا نموذج للأدب الرمزي الساخر الناقد للناس، والمجتمع.. إذن فما يكتب في مجال أدب الطفولة لا يتناول موضوعاتٍ هي للكبار لأنها لن تخرج عن أساليب التعبير لديهم في صور، وتشبيهات يجدها الطفل مغلقة، وغامضة لأنها تتعلق بأفكار الكبار، ونظرتهم إلى الحياة، أو أنها عميقة ذات رموز بحيث لا يفهمها الطفل، وفي هذه الحال لا يستطيع الطفل أن يستمتع بأدبٍ طفلي حقيقي يتوجه إليه، ولعل تجربة عملية في هذا المجال لو روى أحدهم إحدى هذه القصص لواجه أسئلة كثيرة من الطفل في الاستفسار عن كلمة، أو معنى ما، أو ما المقصود بالقصة عموماً.
فإذا كانت هذه هي العتبة الأولى من سلم المعايير التي تضبط أدب الأطفال فلابد من معايير أخرى هي على قدر من الأهمية ليكون هذا الأدب طفلياً حقاً، وإذا كانت الجوائز الأدبية تسعى إلى الوصول إلى أدب أطفال جيد، يستوفي شروطه، فلابد لها من أن تأخذ بدقة بكل الشروط والمعايير التي توصلها إلى اختيار ما هو الأفضل، والأصلح لأن ينشر، ويقدم إلى الطفل.
ونسأل أيضاً: ماذا يريد الناشر؟ وما الذي يجنيه من الكتاب المطبوع؟ ولماذا هي الجوائز؟.. لنقول إن ما يريده الناشر هو أن يحقق تلك الصلة المباشرة بين الطفل وكتابه الذي يتمتع بكل الخصائص المطلوبة من صور، وحروف واضحة، وورق صقيل وجميل، وحجم مناسب، الخ…، أما ما الذي يجنيه من ذلك؟ فهي تلك الانعكاسات المطلوبة من الانفراد مع الكتاب، إذ يتفتح ذهن الطفل، وينشط خياله، وتستقيم لغته، ويجني أفكاراً، ويتشرب قيمة ما أخلاقية، أو جمالية، أو دينية، أو غيرها.
أما لماذا هي الجوائز؟ وما الهدف منها؟ فليس الهدف منها أن يكون لدينا كتّاب للأطفال متميزون فقط بل أن يكون أطفالنا أمام ينابيع من الأدب الطفلي الحقيقي يساهم في بنائهم ذهنياً، واجتماعياً، ونفسياً، ويعزز قدراتهم، ويرسخ في أعماقهم القيم النبيلة.
وهنا تجد الجوائز الأدبية نفسها في مأزق معاييرها، وانتقائها لما يحقق معادلة الطفولة العادلة.. فمن مشكلة ضرورة أدب الأطفال، إلى مشكلة ما يريده الأطفال أنفسهم، إلى ما يمكن أن يقدمه كتّابهم الذين يتنافسون على الجوائز.. كلها أسس في عملية التحكيم.
وبما أن الأدب كل أدب يتألف من: فكرة، ومغزى، وأسلوب، وخيال، ولغة، فأحدث المدارس النقدية تقول: إن الإخلال بأيٍ من هذه العناصر يفقد العمل الأدبي قيمته، مما يشير إلى أن الفرز لدى لجان تحكيم الجوائز أصبح قاسياً، وأن مراعاة هذه الشروط لابد أن يكون أكيداً.
ومن منطلق الإحساس بالمسؤولية تجاه عالم الطفولة فالجوائز الأدبية بنظرة بعيدة تحرص على أن تكرس مستقبلاً لهذا الجنس الأدبي ألا وهو أدب الأطفال، على أن تُراعى في انتقاء الأعمال المرشحة للفوز أسساً ثابتة تتعلق بالمضمون، والأسلوب.. إذ لا يكفي أن يكون شكل الكتاب جيداً، أو حتى مبهراً دون أن يكون النص الذي ينطوي عليه موازياً لجودة الشكل إن لم يتفوق عليه.
والمعايير عموماً لا تغفل المراحل العمرية التي يتوجه إليها النص بعد أن قسمها علماء النفس، والتربية تقسيماً مبدئياً كوضع علامات للكاتب على الطريق حتى لا تختلط منه الخطوات فصنفوها إلى ثلاث. كما أنها لا تغفل منظومة القيم إذ أنها تظل هدفاً في القصة لأنها نسيجها، وليست الأرضية التي يُرسم عليها، فتشّرب الكاتب بالقيمة يظهر في كل ثنايا القصة، وفي كل خيط من خيوطها، والقيم من المرونة، والالتحام، والترابط بحيث تظهَر بأكثر من وجه مع غيرها، وكذلك الحال مع اللغة التي هي من قاموس الطفل اللغوي، أما براعة الكاتب فهي تظهر في انتقاء الموضوعات الهامة، والتي تبرز على السطح، والتي تشد اهتمام الأطفال، فها قد اكتفينا من قصص الغابة، والذئب في زمن الشوارع المضاءة، والمدن التي تعج بالسيارات، والقرى التي تنتفي فيها الغابات عموماً بعد أن دخلنا عصر الرقمية، والذكاء الصناعي.
وعلى هذا فإن على الكاتب أن يسأل نفسه قبل أن يتناول عملاً للأطفال: مَنْ هم قراؤه الذين يتوجه إليهم؟ وما اللغة التي تحمل مدلولاتها في ذهن الطفل التي يجب عليه استخدامها في خطابهم؟ فالغاية هي التعليم، كما اكتساب المعرفة، وإطلاق الخيال الذي هو أساس الإبداع، والابتكار.
* * *