الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
ما زلت أذكر الشاعر الراحل محمد الحريري حينما كنا نستضيفه في الأمسيات الشعرية بكلية العلوم في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي (القرن العشرين).
كان رجلاً بديناً، مرحاً، إلقاؤه جميل، وشعره جميل أيضاً. فهو شاعر الغزل عاجله الموت بنوبة قلبية عن عمر ناهز الثامنة والخمسين. وكان شاعراً منبرياً بجدارة، بل ممثل بارع على المنبر، يعبر بملامح وجهه وبحركات يديه عن مضمون القصيدة. كان شاعر الصورة يرسمها بالحروف، فكأنها تمثل أمام ناظريك لوحة مجسمة، أو تمر كشريط سينمائي.
في مدينة حماة كانت ولادته عام 1922. وفي كلية الآداب بجامعة دمشق درس تخرج في قسم اللغة العربية، وبعد تخرجه خاض غمار التعليم في ثانويات دمشق. وكان يحب هذه المهنة، وفيها يقول شعراً في قصيدة حملت عنوان (المعلم):
يـدكَ الوضيئــة… إنهـا ريحــانُُ
فاغرس يديك.. يعــربد البســتانُ
واسق القلوب من الفرائد سلسلاً
مـن فيضــه قــد تخجـل الغـدرانُُ
مجـد العلوم ولــن أعـدد فضـلها
إن الـدنى… أحجــارها عــرفـانُ
كتب الشعر العمودي، كما كتب شعر التفعيلة، وفي شعره كان صوت الكادحين من الناس في كل الدنيا ولاسيما الذين يكافحون من أجل الحرية والاستقلال. ويتكرر في شعره ذكر آسيا وأفريقيا في رؤية كونية إنسانية يقول:
إن إفريقيا وآسيا لسيل يستبيح الذرا ويطوي السهولا
طوفان الحرية الفذ يطغى كيف تلقى يا مستبد السيولا ؟!
فالشر والآثام والاضطهاد كما يرى الحريري يجب أن تزول من الدنيا، فالدنيا يجب أن تكون للخير والوئام يقول:
يمر العالم كله
بخوابي الشر المطروحة
يركلها بالأقدام المنتصرة
ويبقى منها قطعة
يعرضها في متحف بؤس الإنسان
لقد أمضى الحريري أكثر من نصف حياته في دمشق جاءها للدراسة في جامعتها ثم عمل فيها، وسبب اختياره دمشق أن له فيها أصدقاء ومعارف، وكان محبوباً ومحترماً من الناس، وها هو ينشد لساحة المرجة أهم معالم دمشق:
يا ساحة المرجة يا كف دمشق
لم يـزل يلثمـك الدهـر بشـــوق
كـلنا فـي شـــــــــغل… إلا إذا
خـطــرت مياســـة القــد الأرق
فـتـرانا حــولها فــي حـلقـــة
ليس يقصينا ســوى باص يدق
وعودة إلى غزل الشاعر فهو يصور الأنثى في الشارع أو البستان. وفي تصويره إيقاع وحركة وحياة من قصيدته (البستان السارق) يقول:
أنا والبستان والمحبوبة النشوى صحاب
زرته والليل نور أســود ضــافي الإهاب
ظلي المنثور بين العشـب بؤس وعذاب
هــذه جلســتها… تنهبـني أي انتهــاب
وبكــفيها كتاب … كــبدي هــذا الكـتاب
ويختلس النظر إلى حلاق النساء فيغبطه لأن شعرها المسدول بين يديه:
بين كـفيه شـــعرها المســـدول
شــردته فـروعــه والأصـــول
غـــرة… قســـمت ثلاث لـيــال
فصــباح الجـبين… منهـا ظـليل
لم تطاوعه خصلة رغم تسريحة
بــدع…. بـل بـادرته تصــــول
ومن جميل شعره قصيدته في تلك الفتاة الحلوة التي وقفت أمام شباك التذاكر في السينما، فحصلت على بطاقة دخول ثم أخذت تصعد السلم برشاقة العصفور، وقلب محمد الحريري يقفز كلما صعدت درجة، كان لا يلقيها بل يمثلها، فيقيم الجمهور ويقعده:
وقفت بشباك التذاكر تلقي بأصابعها الأوامر
فتنهد الشباك واستر خى على خمش الأظافر
بيضاء أوشك خدها بلهيبه يغزو المجامر
لولا احمرار الكرت لم تظهر أصابعها لناظر
درجتْ.. فَكَرَّ وراءَها حبلٌ من البشر المغامرْ
أنا أَوَّلُ الحبلِ وفي الوســــــــــــــط انعقدتُ، وفي الأواخرْ
درجتْ.. فجازتْ رُدْهَةً لهفى.. إلى مرقىً مُعاصرْ
دَرَجٌ.. خُطاها فوقَهُ قَفَزاتُ عصفور مُسافرْ
وما أجمل تلك الصورة الشعرية التي رسمها بحروفه، عن الحسناء التي تحمل المظلة، حينما بدأت الرياح تعاكسها، حتى خطفت المظلة من يدها فبللتها مياه الأمطار:
حين أشرعتِ المِظَلَّهْ للسماء المُستهلَّهْ
قد تَهاوى ماردُ الريح على الزند.. فَحلَّهْ
خاطفاً شمسية الحسناء في مجهول رحلهْ
سامحاً للمطر المحروم أنْ يفعل فِعلهْ
فتغشاها إلى أنْ بلَّها أمتع بلَّهْ
مشهدٌ قد ذَلَّ حتى عاود الصحو مطلَّهْ
هامساً: لا تَعبأي بالغيث، إنَّ الغيث أَبلهْ
وتعالَيْ.. عشتِ للصحو.. تساميه ونُبلَهْ
وفي قصيدة أخرى يحسد المصور الذي جلست على كرسيه أمام الكاميرا، فأخذ يمرر أصابعه على شعرها بحجة أنه يصففه، وعلى خديها وجبينها، وتمنى لو أنه المصور:
ياليتني كنت المصوِّرَ يبتغيك فلا يُرَدْ
يُجْري على الخدَّين أنملَه، فلا يحتجُّ خَدْ
ويصفُّ شَعْركِ أو يبعثره على النمَط الأجد
ويطوف حولك يدَّعي أنْ خانه الوضع الأسدّ
لقد دأب الحريري على نشر أشعاره في الصحف والمجلات لكنه لم يطبع ديوانه. خوفاً من الصحافة ونقدها. وبعد وفاته تولى الشاعر شوقي بغدادي جمع قصائده وقدمها لاتحاد الكتاب العرب الذي نشرها تحت عنوان (ديوان محمد الحريري).
وهل حسن المصادفة أو سوؤها جعلتني آخر من يزور محمد الحريري قبل رحيله. ففي يوم الثامن والعشرين من آب 1980، جاء إلي في مكتبي الزميل أحمد صوان، وكان يومها رئيس القسم الثقافي في جريدة (الثورة)، وقال لي (صديقك الشاعر محمد الحريري نُقل إلى مشفى حرستا العسكري، خذ مصوراً واذهب لزيارته، وهات لقاء معه، وبالفعل ذهبت وبرفقتي المصور كربيس بغدويان، وأجريت لقاء معه وعدت إلى الجريدة. وطلب مني الزميل أحمد أن أجهز اللقاء فوراً لنشره في عدد الغد، وبينما كنت أكتب اللقاء، دخل عليّ مرة ثانية، وقال لي (توفي محمد الحريري بعد أن غادرته بقليل، وكنت آخر زواره، فأعدد اللقاء على هذا الأساس. وقمت بذلك ونشر اللقاء الصحفي معه في اليوم التالي لوفاته. ومن طريف ما حدث معي بعد هذه المقابلة مع محمد الحريري، أنني ذهبت لأجري مقابلة مع الشاعر شوقي بغدادي الذي رحل منذ فترة، فرفض، وقال لي (كل من تجري معه مقابلة يموت!!).
العدد 1136 – 14-3-2023