حسين صقر:
لست بحاجة للصور التي تضعونها على هواتفكم، ولا لكلماتكم المعسولة، ولا لتقبيل الأيادي، بحاجة فقط لأن تكونوا بخير، وأن أطمئن عنكم بين الحين والآخر وكلما لاحت لكم الفرصة، حاجتي أن تتذكروا أن لكم أماً سهرت وتعبت واستنزفت نفسها كي تراكم سعداء مرتاحي البال، أن تراكم في قمة السعادة أنتم وأولادكم وعيالكم وفي أعمالكم وحلكم وترحالكم.
هذا حال لسان الأمهات في عيدهن، وعلى مدار أيام السنة، فقط يردن جبر خواطرهن، كلمة طيبة يسمعنها قبل الرحيل، وقبل أن يقطع بهن العمر رحلته إلى دار الخلود.
في طريقي أنا وأحد الأصدقاء إلى دمشق في سيارته الخاصة، أومأت لنا امرأة كي تصعد معنا، وهي في الخامسة والستين من عمرها، كما أفصحت خلال الحديث، وبعد نحو مئتي متر من صعودها، وإذ بها تبادر صديقي بسؤال حول ما إذا كان هناك طريقة للسفر، سألها إلى أين، قالت له: إلى أي مكان بعيد لا تعرف به أحداً، لأنها قبل أيام فكرت بالانتحار، واستغرب صديقي سؤالها، وقال لها عليك بالاستغفار والدعاء والابتهالات والرجوع إلى ربك، و أن بلادنا جميلة وكل شيء فيها سوف يعود كما كان وأفضل، ولكن المرأة التي كانت تنهال دموعها وتجهش في البكاء، لم تنتبه لما يقول لأن فكرة واحدة سيطرت عليها، وهي الانتحار أو الهجرة والابتعاد عمن حولها.
في البداية ظننت أنها مظلومة من أبنائها ومن حولها، وأخذني الفضول وسألتها لما كل هذا الإرهاق والتعب والتشاؤم، ومع من تعيشين، لتقول أنها تعيش مع ابنها، في منزل بالضواحي الغربية لدمشق وسألتها عن أهلها وبناتها وأبنائها، وردت بأن أخوتها وأخواتها وأبناءها متزوجون، ولم يبق لها سوى هذا الشاب معها، وسألتها عن وجهتها، لنفاجأ بأنها ذاهبة إلى والدتها التي تستأجر لها غرفة واحدة في منطقة بالضواحي الشمالية لدمشق، مايعني أنها وابنها في جهة ووالدتها في جهة أخرى، والأخيرة تعاني من أمراض عصبية وعظمية وهي مقعدة ولا أحد يعتتي بها، حتى هي وأخوتها وأخواتها، ولكنها الوحيدة التي تزورها بين الفترة والأخرى، فيما الآخرون لايتذكرونها أبداً ولو برغيف خبز، ويتركونها للمحسنين.
انفجر بها صديقي الذي توفيت والدته العام الماضي وهو دائم الحزن عليها، وقال هذا سبب تعاستك أنت وكل من حولك، وهذا سبب اليأس والإحباط الذي تعيشين، وأردف ياليت والدتي على قيد الحياة حتى أعيش تحت قدميها، بعد أن عرف أن هذه المرأة وأخوتها وأخواتها تركوا والدتهم للقدر، ثم قال جربوا أن تبروها وتعيش معكم، وكيف سيتغير حالكم للأفضل، أنا أكفل لها مصاريفها ودواءها وحاجاتها، شرط أن تحضروها للعيش معك وابنك، فردت بأن ابنها لايوافق على ذلك، لكن صديقي أصر بأنها إذا أرادت المساعدة حقاً، شرطه أن تكون والدتها معها، وأن تحضر لها من يخدمها وهو يتكفل بأجرة من يتوكل بذلك، وأضاف للمرأة حتى إذا أردت أن تخدميها أنت، أنا أدفع لك أجرتك، وبدل من أن تشكره، وتسعى لذلك، قالت له: والدتي لن توافق، وأنا لا أصدق ما تقول، قال لها: ليست والدتك من لايوافق، إنما أنت التي لن توافقي، وأردف، على كل فكري بالأمر واعطيني رقماً أصل به لوالدتك، فقلت لها: إن باب الخير لايُفتح دائماً يا أختي، استغلي هذه المساعدة وهذا المعروف لإنقاذ والدتك، عندها قال لها: إن المحسنين وأهل الخير فوضوني ببعض من أموالهم لتلك الغايات، وإذا كنت جادة فعلاً أحضري والدتك واعتني بها، وتواصلي معي، وصديقي مازال منتظراً ليؤدي عمل الخير، حيث الدال على هذا العمل كفاعله، وأجرى مع تلك المرأة عدة اتصالات ليفي بوعده إلا أنها لم ترد، وفي مرات أخرى خطها خارج الخدمة.
بالتأكيد هناك أشخاص يبرون بأهاليهم، وأصابع اليد لا تتشابه، وهذا الشيء الطبيعي، أما غير الطبيعي أن ننسى أمهاتنا ونتركهم للأقدار.
عودوا إلى أمهاتكم وبروا بهم قبل أن يفوتكم القطار، وتقولوا: لقد فاتنا ما كنا يجب أن نفعله، وهذا الكلام موجه لي أولاً ولغيري ثانياً..فهن لسن بحاجة للقصائد والصور والأشعار..
وفي عيد الأم لا يسعني إلا أن أقول: كل عام وجميع الأمهات بخير وأطال الله بأعمارهن، ورحم منهن الأموات، وجعل مسكنهن الفردوس الأعلى.