الملحق الثقافي- عدنان شاهين:
إذا كانتِ الترجمةُ معادِلاً جماليَّاً، فهذا يفتح لها آفاقاً واسعة، ويمنحها طرائق تجيد سبك الجمال بكلِّ أبعاده ومراميه، جاعلة رؤاها المنسوجة باللغة تجسيداً لحياةٍ تناسلت مضامينُها، وعلى هذا لا يكون استسهالُها مشروعاً، لذلك على كلِّ راغبٍ في خوض غمار ميادينها أن يرتكز على ذخيرة لغويَّة تنظمها قواعد لا تجافي الأصول، ومهارات في هندسة الصياغة ببُعْدَي المعنى والأسلوب.
وقد تصدَّى الدكتور علي إبراهيم لمعضلات الترجمة مُحذِّراً من مهاوي التسرُّع، مُطلِقاً سلسلةً من التحذيرات التي بدأها بصيحة: (ما أسهل النقد وما أصعب الابتكار!) في كتابه (نقد الترجمة العربية – الترجمة ومستويات الصياغة) مُؤسِّساً لانطلاقةٍ يسير في مضمارها من تكاملت عندهم إمكانات ومواهب إعادة صوغ إبداع لا يُفرِّط بنبض إبداع آخر، تكون الترجمة حريصةً على إعادة تشكيلهِ بلغةٍ سليمة لأنّها حامل الترجمة التي لا تستقيم إلّا بالإتقان النَّحْويّ باعتباره معنى، وبراعة الأسلوب كونه لباساً تميِّزه الأناقة، وكلاهما جناح الرسالة المبتغاة.
وعلى هذا يتشارك المترجم ومبدع العمل في إعادة كتابة النصّ، فالأسلوب هو النصّ وقد أظهر مفاتنه، وهو صياغةٌ رُسِمَت تفاصيلُها بأسئلة اللغة المحكومة بالمنطق، وإلّا فالصياغةُ إرباكٌ يعزِّز الغموض، وفي هذا حاجة لنقد الترجمة بهاجس التطوير وتماشي الأساليب مع أزمنتها.
فلا يذهبنَّ الظنُّ بالمترجم أنَّه المُتسيِّد دائماً، والمتحكّم بطرائق التعبير، ومن دون درايةٍ يستسلم للأسلوب الذي يحفر للصياغة أشكالَها، مع الانتباه لتنوُّع الدلالات، انطلاقاً من منهجٍ لغويٍّ يتوق إلى الانعتاق دائماً من فيزيائيَّة المعنى إلى مجازاته، شرط تجنُّب الإبهام. وذلك بتعشيق الألفاظ في تراكيبَ تجعل المعاني في تجلِّياتها المَرُومة.
فهندسة الألفاظ تتنكَّب خيالاً يضيء شفافية جمالها بانزياحات تفجِّر بروقَ البلاغة، ما يسمح لباطن النصّ أن يصير ظاهراً، ولثابت الدلالة أن يتحرَّك في فضاء المدلول، فإذا بنا نلج عتبات النصّ بعيداً عن الاستغراب قريباً من الدهشة. وهنا تحضر عبارة الشاعر الفرنسيّ مالارميه Mallarmė: (نحن لا نصنع الأبيات بالأفكار وإنّما نصنعها بالكلمات).
ويؤكّد الناقد أنّ المسألة في منظور نقد الترجمة: (ليست مسألة أخطاء، بل مسألة صياغة) وهذا يقود إلى الإقرار بأنّ النصّ منهلٌ للجودة، وتربةٌ خصيبة لاستنبات مستويات الصياغة، بتفجير اللغة التي تتشكَّل بوميض اشتعالاتها متواليات من أنماط التعبير وأساليبه، تماشياً مع الأزمنة.
وإذا كان لا بدَّ من هدف يرى الكاتب في: (غاية نقد الترجمة من الوقوف على بعض مراحل تاريخها أن يعرف آليَّة تطوُّرها ليهتدي بعد ذلك إلى آليَّة تطويرها، والارتقاء بأساليبها التعبيريَّة بما يتماشى مع طبيعة العصر واتِّجاهاته) ص 34 وإلّا فالحال ليست إلّا كمن يغرِّد خارج السرب، ولذلك فالاستسلام للبلاغة المتكلَّفة يوصل اللغة إلى التدهور في الأداء الأسلوبيّ، فمطلق انحراف يزيد الهوَّة بين جسد النصِّ وإهابه.
وهكذا فكلُّ مضمونٍ يُوْرِق شكلاً جديداً، وإذا كانت(طبيعة الترجمة من طبيعة النصّ) يتطلّب ذلك أن يكون المترجم موهوباً، ولكنَّ حال المترجم بالموهبة وحدَها تغريدٌ بلا حبالٍ صوتيَّة، ولا نطالبه بالتخصُّص لكنّنا لن نقبل انزياحاً في المعنى المعجمي للفظ، فاختلاطات المعاني ترفع حُمَّى اللغة إلى درجة الهَذَيان، وعلى هذا لن تعجزنا اللغة عن استحضار ما يضمن السهولة والإفصاح عن المراد، فالمترادفات منهلٌ ثرٌّ ينأى بنا عن المهجور والشوارد، واضعاً معادلات نظريَّة النظم التي تحدِّد الأسلوب، ومستويات الصياغة، مُطلِقاً الأساليب التي تُظهر تبنِّي المترجم ميلها إلى التجديد، مع الاحتفاظ بخضوع الألفاظ من حيث انتخابُها لذوق المترجم الذي لا يريد أن يخاطر بكلِّ وسائله الفنيَّة، كيلا يقع في نمطيَّةٍ واحدة، مُحفِّزاً أدواته لمقاربات جماليَّة تضيء اشتغاله، بحيث يحقِّق إرسال النصّ اللذة الجماليَّة التي لا يضنُّ بها مبدعٌ، توجِّهه نفسٌ كبيرة.
ولنسلِّم بداية بأنّنا نستكشف خبايا النصّ بالترجمة، وخبرتنا تزداد بالتمرينات الجمالية، فالسياق الأدبي جسرُ الصياغة الباذخة دون تناسي أنَّ العمل يفرض قيوده، ويسحب من المترجم حريّةً يظنُّها من حقِّه، فيكبح بذلك جماحَ مبالغاته. ولا معيار لبراعة المترجم إلّا حسن التوصيل، والإلمام بالتفاصيل. أمّا إذا كان النصّ الفلسفيّ مُتعانِقاً مع التأمُّلات الشاعريّة فهذا يستدعي مهارات أعلى إذ: (تتميَّز لغة التأمُّل الخلَّاق بعبارتها النقدية الجامعة بين شعرية التعبير، والتعليل القائم على الاستدلال) ص97 كما في كتاب الماء والأحلام لـ: غاستون باشلار G- BACHLARD والذي ترجمه علي إبراهيم وجاء في تقديم أدونيس للترجمة العربية: (هذا الكتاب علمٌ بلغة الشعر، وشعرٌ بلغة العلم. تقرؤه كأنّك تقرأ قصيدة يتشابك فيها الحلم والواقع، المخيِّلة والمادَّة. كأنَّ العناصر تتماهى، أو يحلُّ بعضُها محلَّ الآخر. تقبض على الخيال معجوناً في وردةٍ تتفتَّح بين يديك، أو ترى إلى الكلمات كيف تنسكب نبعاً، أو تتعالى شجراً) ص97-98
وتفرُّد الإبداع، تتضاعف معه المهام فالكفاءة مطلوبة، واللغة التي ليس مقبولاً أن تتفيَّأ لغة النصِّ الأصليّ، بل أن تكون امتداداً وربما تجاوزاً خلَّاقاً لها، فالإبداع لا يخجل من المبدعين.
أمّا إذا كان النصّ أدبيّاً، فتبرز ذات الأديب عندما تصير لغةً، فالترجمة موجاتٌ تصل إلى أقصى غاياتها، أو لا تصل، عند ذلك ما أحوجَنا إلى مترجمٍ يقف مع الشاعر على شرفة النصّ بندِّية الموهبة!
أمّا ما يعرف بمراجعة الترجمة فهي ليست معنيّةً بالتدقيق اللغويّ فقط بل إقامة مقارنات بين أكثر من ترجمة، وبهذا يكون دور المراجعين ارتقائيّاً، وإلا فحالات الضعف في مراجعاتهم يتحمّلون وزرها علميّاً وأخلاقياً.
ولا بدّ من الإشارة إلى الصيغ الأجنبية التي لا ترقى إلى مستوى الصياغة العربية، كأن يقول أحدهم:(إنّ هكذا نصّ أو …) وسأكتفي بعرض تصويب الدكتور مكّي الحسني عضو مجمع اللغة العربية بدمشق لهذا الخطأ: (الخطأ في قولنا: (إنّ هكذا أشياء) هكذا= « ها» التنبيه + كاف التشبيه + « ذا» اسم الإشارة. فمن يقول: (إنّ هكذا أشياء…) كمن يقول: (إنّ مثل ذا أشياء!) والعربيّ لا يقول هذا!! وواضح جدّاً لمن يلمُّ بالإنكليزيّة أو الفرنسيّة أنّ هذا التركيب الشنيع هو ترجمة حرفيّة للتركيبين: « …Such things are» و« …de telles choses sont » قلْ إذن: إنّ مثل هذه الأشياء أو:إنّ أشياء كهذه. ولا تقلْ: (إنّ هكذا أشياء)
وهكذا هي الترجمة، تظلُّ في مرمى التصويب اللغويّ وغيره، وذلك بإسناده إلى مدقِّقٍ لغويّ تميِّزه خبرة التعرُّف والضبط، مستعيناً بالإضافة إلى المنظومة اللغويّة التي حازها تعلُّماً واجتهاداً بالكتب المتخصِّصة كمعاجم الخطأ والصواب وفي مقدّمتها (معجم أخطاء الكتّاب) لــ: صلاح الدين زعبلاوي، وكتاب الدكتور مكّي الحسني (نحو إتقان الكتابة العلميّة باللغة العربية) الصادر عن مجمع اللغة العربية بدمشق 2009مُحدِّداً فيه أسباب تدنِّي مستوى الأداء بالعربية، وسبل التمكُّن من اللغة العربية، والوسائل المساعدة.
غير أنّ المسألة تتعدَّى التدقيق اللغويّ والذي لا بدَّ منه للخروج بعملٍ اجتمعت له عناصر النجاح من وضوح الفصاحة، إلى سلامة التراكيب، وغنى الأساليب التعبيرية.
وهكذا فالترجمة عمليّةُ تحويلٍ مُعقّدة، ومشروعٌ جماعيّ، ولغةٌ في لغةٍ لا تتخلَّق إلّا في رحم الإبداع، تتحقَّق وظيفتها الجماليّة بارتقاء الصياغات، مُفْسِحَةً المجال للمترجم الذي يعيد كتابة العمل بتفجير طاقات اللغة، نزوعاً إلى متعة التذوُّق، ولذَّة النصّ.
العدد 1139 – 4-4-2023