المــــلل الوجـــــودي… تـــــوق دفيـــن دون هـــــدف

الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
صنف هايدغر، أحد أبرز واضعي النظريات حول الملل، والذي وصفه بأنه ( الضباب الصامت ) هذا الشعور بثلاثة أنواع: الملل العادي، على سبيل المثال، عند انتظار القطار؛ وإحساس بالضيق، لم يربطه بأي تجربة محددة بل بحالة إنسانية عابرة. وفقدان لا يوصف لشيء لا يمكن تسميته ويبدو مألوفاً لدينا تماماً، وضرب لنا هايدغر مثالاً : « في حال كنا مدعوين إلى حفل عشاء نجد هناك الطعام المعتاد والمحادثة المعتادة على المائدة.. لا يعد كل شيء لذيذاً فحسب، بل كل شيء يدل على حسن الذوق أيضاً.. لم يكن هناك شيء غير مرضٍ في هذه المناسبة على الإطلاق، ومع ذلك، بمجرد العودة إلى المنزل، يأتي ذلك الإدراك غير المرغوب فيه: «لقد شعرت بالملل بعد كل ما شهدته في هذا المساء». ولدينا «الملل الوجودي» الذي يمس وجود الإنسان، أي الشعور بالفراغ والعزلة الذي يمتد إلى ما هو أبعد من التعب العقلي اللحظي، وهو مفهوم مزمن ومعقد ساعد الفلاسفة والروائيون والنقاد الاجتماعيون في تعريفه.. وهو الذي تناولته الكثير من الأعمال الأدبية والفنية، لكونه الأكثر تأثيراً على النفس البشرية.
كتب صاحب رواية مدام بوفاري غوستاف فلوبير إلى صديقه لويس دي كورمينين في عام 1844 « هل تعلم أن الملل ليس هذا الملل الشائع والمبتذل الناجم عن الكسل أو المرض، إنه الملل الحديث الذي يبتلع أحشاء الإنسان، وبالنسبة للشخص الذكي هو ظل يمشي، شبح يفكر… أما بالنسبة للكلمة، فهي مرض الشباب الذي يعود إلى أيامي السابقة مثلما هي اليوم» ولدت بالملل، إنه الجذام الذي يأكلني، أضجر من الحياة والآخرين وكل شيء» بينما يرى الشاعر بودلير أن « الملل هو أخلاقي في الأساس، هو الضعف والندم على هذا الضعف، عدم الرضا عن الذات، يجثم على الجسد ويعذبه، منذ عدة أشهر كنت مريضاً، بمرض لا علاج له مع الجبن والضعف».. واعتبر مالارميه في عام 1864 أن « أن الملل أصبح مرضاً عقلياً لديه « فيما يكتب موباسان إلى صديقته ماري باشكيرسيف « أشعر بالملل بلا هوادة، بلا راحة وبدون أمل.. وفي روايته الصادرة عام 1960 بعنوان ( الملل ) يعود الكاتب الإيطالي البيرتو مورافيا إلى الموضوع الرئيسي في كل أعماله، وهو أزمة العلاقة بين الإنسان والواقع. يحلل بكل وضوح وشاعرية عجز شخصياته تقبل العالم الخارجي والتواصل معه، يقول» الملل بمعنى غياب العلاقة بيني وبين الأشياء من حولي: اللوحة القماشية على الحامل، والمائدة المستديرة المركزية والشاشة..بيني وبينهم لم يكن هناك أي شيء، لا شيء على الإطلاق، ربما مثل الفضاءات الفلكية، حيث لا يوجد شيء بين النجوم المتباعدة عن بعضها مسافة المليارات من السنين الضوئية «
اعتبر شوبنهاور أن الملل هو « توق دفين دون أي هدف محدد «ورأى المفكر كيركيغور بأنه « جذر كل الشرور «.. وفي الروايات الصادرة خلال القرن التاسع عشر غالباً ما تُحكّم الضجر بسير أحداث هذه الروايات.. ماذا كانت إيما بوفاري، شخصية الرواية الصادرة في سنة 1856، للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير ستفعل إن لم تكن تشعر بالملل من زوجها المماطل ومن الوجود والحياة نفسها؟
رواية أوبلوموف للكاتب الروسي ايفان غونتشاريف (ظهرت الرواية بعد ثلاث سنوات من رواية جوستاف فلوبير)، هي رواية رجل لا فائدة منه، يستفيد من المعاش الذي يوفره عقار إقطاعي ويمضي الوقت مع أسرته في صمت كبير ونوبات من التثاؤب اليائس المعدي.. وقد اشتق منها مصطلحاً من اسم بطلها بعنوان « الأبلوموفية « في إشارة إلى الملل والكسل وقد أعجب بها الزعيم لينين لأنها تدين الطبقة الأرستقراطية.. وأولى الأمثلة الموثقة لاستخدام مفردة الملل لوصف شعور ذاتي لم تظهر حتى سنة 1852 في رواية «المنزل الكئيب» لديكنز، والذي عانت منه الشخصية المسماة بشكل ملائم، السيدة ديدلوك.
ولدينا رواية «الغثيان» للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، وكتاب أنيس منصور «وداعاً أيها المَلَل» الذي تضمَّن مجموعة من المقالات حاولت استكشاف المَلَل وما يُحدثه في النفوس، ورواية «إسطنبول» للكاتب التركي أورهان باموق وكلها تناولت المَلَل الوجودي الذي يمس وجود الإنسان.
وفي العودة إلى شوبنهاور، رأى أن حياة الإنسان، وحتى الحيوان «تتأرجح مثل البندول بين الألم والملل».. وقد تبدو لنا هذه الصورة مبالغ فيها لو لم نجد ما يدعمها في التجارب العلمية التي أثبتت أن الإنسان يفضل التعرض للألم في محاولة لتجنب الملل.. وهذه ما برهنت عليه تجربة أجرتها جامعة هارفارد عام 2014، حين تُركوا أفراداً منعزلين في غرفة بيضاء هادئة وخاوية سوى من زر واحد إن ضَغط عليه الشخص يصاب بصدمة كهربائية.. بعد بضع دقائق، شعرت نسبة كبيرة منهم بالملل إلى درجة أن بعضهم ضغط على الزر مرتين.
في الأساس، يمثل الملل كما عرَّفه تولستوي «رغبة في تحقيق الرغبات». وفي وصفه لهذا الشعورأوضح المحلل النفسي، آدم فيليبس هذه الفكرة قائلاً إن الملل هو «تلك الحالة من الحياة المعلقة التي تُخلق فيها الفرص ولكنها لا تتطور، ومزاج القلق المستمر الذي يتضمن هذه الرغبة السخيفة والمتناقضة، أي الرغبة في امتلاك رغبة».
وفي كتاب بعنوان «خارج جمجمتي: سيكولوجيا الملل»، يصف عالم الأعصاب، جيمس دانكرت، وعالم النفس، جون دي إيستوود هذا الإحساس بشكل جيد على أنه حالة معرفية لها شيء مشترك مع متلازمة طرف اللسان، وهو الإحساس بأن شيئاً ما مفقود، على الرغم من أننا لا نستطيع أن نحدد بالضبط هذا الشيء.
كتب الراهب جون كاسيان من القرن الخامس أن رهبان العصور الوسطى كانواعرضة لشيء يسمى الفتور الروحي، وهو «نوع من الارتباك العقلي غير المعقول»، ، حيث لم يكن بإمكانهم فعل الكثير سوى الدخول والخروج من زنازينهم، والتحسر على عدم قدوم أحد من الإخوة لرؤيتهم، والنظر إلى الشمس «كما لو كانت بطيئة جداً عند الغروب».
وكما أشار العلماء، فإن الفتور الروحي يتشابه كثيراً مع الملل، على الرغم من أنه كان مرتبطاً بحكم معين: كان الفتور الروحي يعد إثماً لأنه يجعل الراهب «عاطلاً وغير مفيد لكل عمل روحي».. ومع ذلك، كانت هذه الأوصاف بمثابة نذير استثنائي لشعور سيتم توزيعه لاحقاً بشكل أكثر ديمقراطية.
والحل لدى الكاتب والمفكر ألبير كامو لمواجهة العبثية والملل الوجودي يستوجب ( التمرد ).
         

العدد 1139 –  4-4-2023   

آخر الأخبار
سوريا تستقبل العالم بحدث مميز تفاقم الانتهاكات ضد الأطفال عام 2024 أكثرها في فلسطين جناح وزارة المالية ..رؤية جديدة نحو التحول الرقمي خطوط جديدة للصرف الصحي في اللاذقية  رغيف بجودة أفضل.. تأهيل الأفران والمطاحن في منبج معرض دمشق الدولي.. الاقتصاد في خدمة السياسة قافلة مساعدات إغاثية جديدة تدخل إلى السويداء "دمشق الدولي".. منصة لتشبيك العلاقات الاقتصادية مع العالم رفع العقوبات وتفعيل "سويفت ".. بوابة لانتعاش الاقتصاد وجذب الثقة والاستثمارات سوريا تستعد لحدث غير مسبوق في تاريخها.. والأوساط الإعلامية والسياسية تتابعه باهتمام شديد سوريا تحتفي بمنتجاتها وتعيد بناء اقتصادها الوطني القطاع الخاص على مساحة واسعة في "دمشق الدولي" مزارعو الخضار الباكورية في جبلة يستغيثون مسح ميداني لتقييم الخدمات الصحية في القنيطرة معرض دمشق الدولي.. انطلاقة وطنية بعد التحرير وتنظيم رقمي للدخول برنامج الأغذية العالمي: المساعدات المقدمة لغزة لا تزال "قطرة في محيط" "المعارض".. أحد أهم ملامح الترويج والعرض وإظهار قدرات الدولة العقول الذهبية الخارقة.. رحلة تنمية الذكاء وتعزيز الثقة للأطفال وصول أول باخرة من أميركا الجنوبية وأوروبا إلى مرفأ طرطوس شهرة واسعة..الراحة الحورانية.. تراث شعبي ونكهات ومكونات جديدة