الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
عندما كنّا في المرحلة الثانوية ، قرأنا بإيجاز رواية (الأرض) للأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي والتي تتمحور حول ارتباط الفلاح بأرضه والتضحية من أجلها ، كونها تشكّل رمزاً من رموز السيادة الوطنية ، فالأرض في رواية (الأرض ) هي الوطن ، هي الوجود ، هي الحياة ، وهي البقاء ، من أجلها ترخص الدماء ، وتُقدّم الأرواح دفاعاً عنها ، لأنها عنوان العزّة والكرامة . لقد شكّلت الأرض برمزيتها ودلالاتها المعنوية أحد أهم دوافع الإبداع ، ومادة غنيّة للكثير من الأدباء والشعراء ، إن لم نقل جميعهم .
كما شكّلت أهم أسباب الحروب العالمية ، والنزاعات الإقليمية ، فهي رمز الوجود ورمز الكرامة ، لذلك قيل الكثير من الأمثال والأقوال التي تبيّن مكانتها وأهميتها على مستوى الدول ؟ وعلى مستوى الأفراد مثل (الأرض كالعرض ) و….
ونظراً لهذه الأهمية فقد سعت دول الاستعمار ودول الهيمنة إلى احتلالها وتشويه معالمها وقضمها المستمر لها لدرجة ابتلاعها ، ولعلّ نكبة الشعب الفلسطيني عام ١٩٤٨ وقيام كيان الاحتلال على أرض فلسطين العربية وحروبه المستمرة واحتلاله الأرضي العربية عام ١٩٦٧ في الجولان السوري والضفة الغربية وسيناء ، يعد أكبر دليل على سياسة الكيان الصهيوني في قضم المزيد من الأرض العربية وصولاً إلى تحقيق شعاراته المزعومة بحدود هذا الكيان (من الفرات إلى النيل ؟؟!!)
وإمعاناً منه في سرقة الأرض الفلسطينية ، فقد قام كيان الاحتلال في ٣٠ آذار عام ١٩٧٦ بمصادرة آلاف الدونمات من الأرضي الفلسطينية ؟ فعم الإضراب ، واندلعت المظاهرات في معظم الأراضي الفلسطينية ، وأدّت المواجهات مع قوات الاحتلال إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى واعتقال مئات الفلسطينيين .
ونظراً لأهمية هذا اليوم في مسار الصراع العربي الصهيوني ، فقد اعتبر (٣٠) آذار (يوم الأرض) ، يتم إحياؤه على المستوى الفلسطيني والعربي بالعديد من الأنشطة والفعاليات السياسية والثقافية والفنيّة و…
لم يترك الأدباء العرب وخاصة الفلسطينيين منهم مناسبة إلا وذكّروا بمعاناة الشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه ودياره التي ولد وعاش فيها ، وكان أبرز من كتب من الشعراء محمود درويش في قصيدته المشهورة : (الأرض )
(فى شهر آذار،
فى سنة الانتفاضة،
قالت لنا الأرض
أسرارها الدمويّة.
فى شهر آذار مرّت أمام
البنفسج والبندقيّة خمس بنات
وقفن على باب مدرسة ابتدائيّة،
واشتعلن مع الورد والزعتر البلدى.
افتتحن نشيد التراب
دخلن العناق النهائى
اذار يأتى إلى الأرض
من باطن الأرض يأتى،
ومن رقصة الفتيات
البنفسج مال قليلا
ليعبر صوت البنات.
العصافير مدّت مناقيرها
فى اتجاة النشيد وقلبى )
لقد خلّد محمود درويش يوم الأرض وانتفاضة يوم الأرض بأكثر من قصيدة عبّر من خلالها عن رمزية الأرض بالنسبة للشعب الفلسطيني ، فهي الحياة ومفتاح أي حل في قضية الصراع العربي -الصهيوني ، إلى ذلك يقول في (على هذه الأرض ) :
( على هذه الأرض ما يستحق الحياة:
تردد إبريل، رائحة الخبزِ
في الفجر،
آراء امرأة في الرجال،
كتابات أسخيليوس ،
أول الحب،
عشب على حجرٍ،
أمهاتٌ تقفن على خيط ناي
وخوف الغزاة من الذكرياتْ.
على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ:
نهايةُ أيلولَ،
سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها،
ساعة الشمس في السجن،
غيمٌ يُقلّدُ سِرباً من الكائنات،
هتافاتُ شعب لمن يصعدون
إلى حتفهم باسمين،
وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ. )
ويعزّز الشاعر أدونيس في قصيدته :(قالت لي الأرض ) والذي تضمنه ديوانه :(أغاني مهيار الدمشقي ) مقولة : إنّ الأرض هي موطن البشر جميعاً ، تضمهم في أحضانها كالأم الحنون ، ترأف بأبنائها ، وعليهم أن يسهموا بإعمارها وحمايتها من التخريب والعبث ، وإلى ذلك تخاطب الأرض أبناءها :
( مجّدوني ، تفتّقوا في ينابيعي
فيضاً ،وفي ترابي ربيعا
وحدةٌ نحن ُ ،يضحك ُ القلب ُ
للقلب ِوتستلهم ُ الضلوع الضلوعا )
أما شاعر المقاومة الراحل سميح القاسم فقد ارتبط شعره بقضية شعبه ، قضية فلسطين ، قضيّة الأرض والإنسان الذي تجذّر في أرضه سندياناً وزيتوناً ، وهذا ما نلمسه في جلّ قصائده التي تضجّ بالأمكنة من قرى ومدن فلسطينية محتلة :
(أنا بلادي وبي منها بدايتُها
ولي نهاياتُها ورداً على صدر ِ
أنا بلادي فجاج (النقب) خاصرتي
و(كرملُ الله) صدري والمدى بصري
وما (الجليل ُ ) سوى وجهي فهل شخصت
عين ٌ تطالعه إلا رأت صوري .؟)
لقد شكّلت الأرض عاملاَ مهمّاً في إبداع القاسم ، فالأرض في شعره ، هي البيت والبيارة ، هي الأشجار المتشبثة بالجذور ، هي المدن والقرى التي تنتفض وترفض الاحتلال :
(من هنا
من مطهر الأحزان
في الأرض الكليمة
أيّها العالم
تدعوك العصافير اليتيمة
من هنا
من غزّة الثكلى
من جنين
والقدس القديمة ..)
ولعلّنا لا ننسى ونحن في سن اليفاعة قصائد الشعراء الكبار نزار قباني وعلي محمود طه والجواهري وغيرهم وقد تحوّلت إلى أناشيد تصدح بها الحناجر في المناسبات الوطنية والقوميّة مثل : نشيد طريق واحد للشاعر نزار قباني وكنا نسمعه يومياً بصوت أم كلثوم عبر إذاعة فلسطين من دمشق :
( أصبحَ عندى الآنَ بندقيه.
إلى فلسطينَ خذونى معكم
إلى ربىً حزينةٍ كوجهِ مجدليّه
إلى القبابِ الخضرِ.. والحجارةِ النبيّه
عشرونَ عاماً.. وأنا
أبحثُ عن أرضٍ وعن هويّه
أبحثُ عن بيتى الذى هناك
عن وطنى المحاطِ بالأسلاك
أبحثُ عن طفولتي..
وعن رفاقِ حارتي..
عن كتبي..
عن صوري..
عن كلِّ ركنٍ دافئٍ..
وكلِّ مزهريّه.)
هي الأرض رمز الهويّة والوجود ، مُلهمةُ الشعراء ، بوصلة الإبداع ، هي الوطن في أسمى معانيه ، وهي القيم في أرقى وأنبل تجلياتها ..هي الأم التي تحنو …هي الأم التي تعطي بلا حدود …هي أبجديّة الصمود وعنوان البقاء.
العدد 1139 – 4-4-2023