ليس من الخيال السياسي، ولكنه في حسابات المنطق العلمي يمكن للعرب من خلال ما يمتلكونه من إمكانيات وثروات وموقع جغرافي متميز أن يكونوا القطب المنتظر أو على الأقل من الأقطاب الصاعدة حال توحدهم أو تكتلهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وأن يكونوا ضمن دائرة الحسابات الاستراتيجية الدولية، ونحن هنا نتحدث عن أمة لا عن دولة بعينها، فثمة استثناءات هنا وهناك، ولكن وبنظرة كلية يبدو أن العرب كانوا حتى وقت قريب كمن يسير خارج منطق الأشياء ومنطق السياسة وفن الحكم وإدارته، فالعرب الذين استطاعوا في يوم من الأيام لي ذراع أوروبا عندما تضامنوا في تشرين عام ثلاثة وسبعين، واستعملوا بعضاً من قوتهم العسكرية والنفطية نراهم اليوم لا يحتلون المساحة المناسبة في حسابات الكبار وصفقاتهم فيما يطلق عليه لعبة الأمم والأصح القول لعبة الكبار على الصغار.
إن أهمية أي دولة أو تجمع أو تكتل دولي هو محصلة عناصر مادية بشرية واقتصادية وعسكرية وجيو سياسية تكلل بإرادة سياسية قوية، والواضح من خلال تحليل تلك العناصر على المستوى العربي أنها من دون فعالية، لأنها لا توظف إلا كأوراق بيد قوى خارجية إقليمية ودولية، بمعنى أنها تشكل قيمة مضافة لدول لا تمتلكها أصلاً، وإنما تسيطر عليها عبر نفوذها السياسي، أو فائض قوتها العسكرية، وبالمقارنة على المستويين الإقليمي والدولي، يمكن أن نقدم مثالين اثنين أولهما الإيراني والآخر الجنوب إفريقي مع الفارق في طريقة التوظيف، فقد استطاعت إيران وعلى الرغم من أنها تتعرض لحصار اقتصادي وعداء مزمن مع الغرب أن تصبح قوة إقليمية يحسب لها الغرب وأميركا والعالم ألف حساب لأنها استطاعت وبالاعتماد على قوتها الذاتية وحسن استثمار ثرواتها وتوظيفها بناء دولة عصرية علمياً واقتصادياً وعسكرياً وكذلك على الصعيد المؤسسي الديمقراطي، والسبب الرئيس الذي يقف وراء ذلك هو توافر الإرادة السياسية لقيادتها، والحس القومي والوطني الذي امتلكته مكللاً بالإصرار والإيمان على تحقيق الأهداف مهما كان شكل الصعوبات والتحديات وقدرتها على الاستثمار الصحيح للعناصر التي تمت الإشارة إليها.
المثال الآخر جنوب إفريقيا الدولة التي كانت مستعمرة أوروبية ومثالاً للتفرقة العنصرية والتناحر والحروب استطاعت خلال أقل من عقدين من الزمن أن تتحول إلى قوة كبرى إقليمية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لها تأثيرها واهميتها ودورها على صعيد العلاقات الدولية ورسم المشهد الدولي بأبعاده الاستراتيجية، والسبب هو أيضاً امتلاك الإرادة السياسية الوطنية المتحررة من كل أشكال الارتهان للخارج والإصرار على النجاح في خطط التنمية الطموحة اعتماداً على الطاقات الوطنية واستثمار الثروتين المادية والبشرية والانفتاح على كل ما هو جديد.
إن أخذ مثالين آسيوي وإفريقي هو للدلالة على تشابه المقومات والعناصر الثقافية والبشرية مع بعض الدول العربية وكذلك الإمكانات والظروف التاريخية التي مرت بها شعوب متماثلة إلى حد بعيد لبيان أهمية امتلاك عنصر الإرادة السياسية والقرار الوطني وحسن توظيف الطاقات في إطار بناء القوة الذاتية أخذاً بالاعتبار استثمار الظرف الدولي وما يوفره من فرص نجاح لمن امتلك اصلاً إرادة النجاح والتفوق.
إن أهم ما يفسر تراجع الدور العربي على المستوى القومي هو غياب التنسيق بين الدول العربية الفاعلة أولاً وحالة الارتهان للقوى الخارجية سواء كانت إقليمية أم دولية ناهيك عن عدم توافر إدارة رشيدة وحوكمة اقتصادية وسياسية على المستويين التنموي والسياسي، وما يرافق ذلك من تسلط وفساد وانتهاك لحقوق المواطنة في أكثر من بلد عربي، كل ذلك ترافق مع حالة تشظٍّ على مستوى بنية الدولة الوطنية نتيجة خطابات تفتيتية تبنتها وسائل إعلام ومنابر عكست سياسات واستراتيجيات محكمة، تحمل تفكيراً بدائياً لا ينتمي إلى روح العصر والدولة المدنية بأي صلة تأسس على خرائط ضيقة تجمع ولا تفرق، وتصب في خانة العداء للعروبة ووجهها الحضاري المنفتح.
إن مؤشرات حقيقية لاحت في الفترة الأخيرة تدل على توافر إرادة سياسية وتفكير وذهنية جديدة عند بعض القيادات العربية للتحرر من الهيمنة الخارجية والتوجه نحو الشرق وبناء علاقات استراتيجية مع كل من الصين الشعبية القطب الصاعد واتحاد روسيا المنتفض على الهيمنة الأميركية والغربية مع انفتاح عربي عربي وتصالح مع إيران، وهذا كله إن استمر وتعمق فإنه يسيء بتحولات عميقة في المشهد الإقليمي والدولي، يصب في مصلحة العرب وجوارهم الإقليمي ويمكن لهذا النهج إن أخذ كامل مساحته وتطور إلى علاقات شراكة استراتيجية بين الدول العربية يعززه تكامل اقتصادي وتفعيل للسوق العربية المشتركة وإحياء مفهوم التضامن العربي مع نبذ للخلافات الجانبية والتركيز على التنمية الإقليمية المتوازنة بين الأقطار العربية والتركيز على المساحات المشتركة لا نقاط الاختلاف والتباين بين الدول العربية، يمكن لتفكير سياسي عقلاني وعلمي
وبراغماتي كهذا أن يشكل مدخلاً لمسار عربي عربي تكاملي وتراكمي ينتهي إلى شكل من أشكال الاتحاد وفق نموذج الاتحاد الأوروبي، بحيث يتحول العرب مع الزمن إلى رقم في الحسابات الدولية وصناع القرار على المستوى الدولي بالاعتماد على الذات الفاعلة وكقطب صاعد لا يستجدي أو يراهن على قوة أخرى صاعدة في ظل تحولات عميقة تشهدها الساحة الدولية تنبئ بإرهاصات أولى لتشكل نظاماً دولياً جديداً تعددياً مع تحول عميق في العلاقات الدولية والنظام الاقتصادي العالمي وحلول فكرة الاستقرار البناء والشراكة في التنمية بدل الفوضى الخلاقة التي أدخلت العالم في أتون صراعات لا نهاية لها.