وعي الأمة العربية لذاتها

الملحق الثقافي- نبيل فوزات نوفل:

لا نريد الحديث عن أهمية الفكر القومي ومراحل نشأته، والعوامل الداخلية والخارجية التي أدت إلى فشل تحقيق الكثير من أهدافه، وسنشير بعجالة إلى بعض الأمور التي يعاني منها الفكر القومي العربي، ونقترح بعض الرؤى التي نراها تحقق الرفعة والقوة لهذا الفكر. فلا شك أن الفكر القومي العربي تعرض إلى عدة تحديات، ووقع في بعض الإشكاليات منها سوء الفهم لمفهوم القومية العربية ما أدى لنشر الكثير من الأفكار المضللة منها:
اتهام العروبة بالتخلف، واعتبارها شيئاً نظرياً طرح في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع النظريات القومية الفرنسية والألمانية وغيرها، وأي طرح قومي هو طرح متخلف، فركز أعداء القومية العربية وأبواقهم المأجورة على فكرة أن المناداة بالإيديولوجيات القومية ضرباً من الاستمساك بإرث تقضى زمانه، بل ضربٌ من الحنين العاطفي إلى ماض تجاوزته الأحداث، والترويج إلى أن القومية العربية بدأت تلفظ أنفاسها، ويجب البحث عن إيديولوجيات جديدة، ورفض فكرة وحدة الأمة العربية، ونشر بدعة أن الفكر القومي مستوردٌ وغريبٌ، وطارئ ولا ينتج معرفة، وبالتالي فقد بات من الضروري والعاجل أمام الفكر القومي العربي التصدي لكل الدعوات المشبوهة التي تعادي القومية العربية والفكر القومي، والتركيز على وحدة الأمة والتكامل والتعاون بين أجنحة الفكر القومي العربي والتركيز على العلمانية الإيمانية التي لا تنكر الدين بل تلغي سلطة رجال الدين في الحكم وإدارة الدولة.
وتعزيز الفكر النقدي والعلمي والديمقراطية في الحياة السياسية العربية، وعدم إنكار دور القوى السياسية في الحياة السياسية العربية، والتزام العمل على تحقيق الوحدة العربية، وتحقيق التضامن العربي، مع احترام خصوصية كل قطر عربي، والتركيز على التكامل الاقتصادي وتحقيق المواقف السياسية الجامعة للعرب وخاصة قضية فلسطين، والتزام نهج اقتصادي يخدم الشريحة الكبرى من الجماهير العربية وبناء نهضة علمية متطورة من خلال مشاريع عربية مشتركة تؤدي إلى امتلاك العرب قوة علمية وتكنولوجية تجعلهم في مصاف الدول المتقدمة، وفضح حالات التزييف والتهم المضللة للقومية العربية والعروبة، وتنقية تراثنا من الشوائب التي علقت به، والإيمان بأن العروبة حضارية بعيدة عن روابط العرق والدم، وهي متطورة باستمرار بما يواكب روح العصر ومصالح الأمة. فالفكر الوطني القومي الذي نريد هو الفكر الحيوي المتجدد الذي يفهم الواقع، ويسقط الأوهام، وهو يستعيد هوية العروبة وثقافتها، ويستوعب حاجات الأمة العربية في حاضرها ومستقبله ويعي الاختلاف فيما بين أقطارها وتياراتها القومية، وبالتالي بات التركيز على وعي الفكر القومي ضرورة وجودية للأمة العربية انطلاقاً من أن وعي الشيء يعني إجرائياً إدراك ماهيته، كما يعني بيان ما له وما عليه، وذلك لمعرفة قدرته على الاستمرار في الحياة، وعلى مواجهة التحديات المفروضة على طبيعة الأشياء في مختلف الميادين، يضاف إلى ذلك أن وعي الشيء يعني فيما يعنيه الوقوف على حقيقة مشاكله، لوضع الحلول الناجعة لمعالجتها كما يعني إدراك أهميته في حياتنا، وشخصياتنا فردياً واجتماعياً وحضارياً وسياسياً، ما يفضي إلى استشعارنا لحقيقة انتمائنا للشيء الذي نعيه، مدركين ما يترتب على هذا الانتماء من الإحساس العالي بالمسؤولية تجاهه، وما يترتب على هذا الانتماء من المبادرة إلى فعل كل ما من شأنه صيانة معانيه، وكل ما من شأنه العمل على الإفصاح في المجال له ليقوم بدوره في مختلف جوانب حياتنا، وتوفير السبل الميسرة لتأدية دوره، ويتحقق ذلك من خلال: امتلاك الوعي القومي الذي يعتمد على فهم الماضي ومعرفة أبعاده الثقافية والتاريخية والعوامل الطبيعية وقواها الروحية، وقيام حوارات فكرية ثقافية خلاقة لا تنفي الاختلاف، ولا تلغي الرأي الآخر، والعمل على المثاقفة الوطنية والقومية وفق منهج تنموي متطور، يتخلص من التقليد والمحاكاة والتبعية، وتعرية أي تفكير انفصالي، تحت أي مسمى كان عرقياً أم إقليمياً، أو طائفياً، واستدعاء مفهوم الأمة ليصبح عقيدتنا الجديدة، والمنارة التي نهتدي بها في تعاطينا مع قضايانا الوطنية والقومية، لذلك بات الأخذ بالحوار منهجاً للتقارب بين التيارات الفكرية والسياسية والمذاهب الإسلامية ضرورة ملحة، أي تعزيز الثقافة التي تكرس الحوار بين أبناء المجتمع، والتأكيد على أسلوب الحوار، والمناظرة في نقد الأفكار، والدعوة إلى التوحيد بأسلوب حر مفتوح،والإيمان أن العروبة ذات امتداد تاريخي وثقافي واسع وكبير قديماً وحديثاً، وهي رسالة حضارية للإنسانية، ترتكز على أمرين أساسيين: الأول:ارتباط الإسلام الوثيق والمتين بالعروبة، وارتباط العروبة الذي لا ينفصل بالإسلام. والثاني: هي المسيحية التي انطلقت من بيننا وانتشرت عبر العالم بلهجة عربية هي الآرامية، وبالتالي فالعروبة هي وعي الأمة العربية لذاتها، وهذا الوعي يرتبط بالإسلام عبر حقيقتين أساسيتين: أولهما: وعي الأمة العربية لذاتها، ووعي للإنسانية أيضاً، لذلك لم يكن وعي العرب لذاتهم ولدورهم في التاريخ وعياَ عرقياً شوفينياً استعلائياً، وإنما كان ينطلق من فكرة التماثل بين العروبة والإنسانية.وثانيهما:هذا الربط بين العروبة والإنسانية لم يكن رابطاً تأملياً مجرداً، وإنما كان رابطاً محدداً جاء في إطار نتاج حضاري وثقافي إنساني، وإعادة دراسة تراثنا، من موقف الاعتزاز بهذه الأمة لا لاستهزاء بها، من موقع الثقة بالنفس لا من موقع اليأس، مستندين إلى منهج الفكر النقدي الذي يسلك طريقة المواجهة والصراع مع الذات والآخر، وخوض معركة الذات مع الذات، والتعامل مع التراث، باعتباره حاضن الهوية القومية، والتعريف بروائعه مع تخليصه من شوائبه، وتطبيق المنهجية التاريخية في دراسته، أي تحقيق ذاتيتنا المستقلة من خلال وقوفنا من ماضينا وقفة نقدية جذرية، والإيمان بأن وجود الآخر هو الذي يشكل وجودنا،ومعرفة الذات، تتطلب معرفة الآخر.
العمل على كشف وتعرية الفكر الظلامي التكفيري ويتم ذلك على مستوىين لأول: هو المستوى التربوي الاجتماعي، والمستوى الثاني: هو المستوى العقائدي، إذ لا بد من إبعاد العقيدة الدينية عن السياسة، وإبعاد الدين عن الصراعات الاجتماعية حول الخيرات والسلطة، لذلك فإن الفهم الحقيقي للعلاقة مع الإيمان قضية جوهرية، فعملية التحليل التاريخي التي نريد تطبيقها على التراث لا تهدف إطلاقاً إلى القضاء على العاطفة الدينية،عاطفة الإيمان والروح، بل على العكس، فذلك هو المنهج الوحيد الذي يخرج الإيمان منه أو بعده في النهاية منتصر، فالإيمان لن يصاب بأذى بعد تطبيق المنهج التاريخي على التراث بصفته تخيلاً نفسياً له، وتغلغلاً في أعماقه القصية.
فنحن ندعو للقطيعة مع الفهم القاصر للإسلام والتفاسير المبتورة من التراث، فالقطيعة لا تعني الانقطاع عن الإيمان أو اعتباره مسألة ثانوية لا أهمية له. فالإيمان حق وعدل وليس إرهاباً وتخويناً، والعمل على تعزيز ثقافة التنوير في المجتمع،الذي يعني جرأة الإنسان في استخدام العقل بشكل مستقل، وهو لا يستعار من أحد، بل ينبع من داخل الأمة ولا يستورد استيراداً كأي آلة من آلات التكنولوجيا ويتصف بحرية التفكير والأخذ بالعلمانية الروحية الجديدة، لأن العلمنة ليست فقط غربية، وإنما هي عربية إسلامية أيضاً، لأننا عرفنا شيئاً منها في عصرنا الإبداعي والكلاسيكي المجيد(المعتزلة مثلاً).وهي تعني في نهاية المطاف كسباً تاريخياً للبشر الذين يجاهدون ويناضلون من أجل تحررهم.والعمل من أجل بلوغ الحقيقة، وأن نجعل هذا العقل حليفاً مخلصاً لنا في كل لحظة من لحظات حياتنا، وتكريس الفكر النقدي،الذي يعتبر شرطاً من شروط الارتقاء الإنساني،إلى جانب الفكر التحليلي الذي يمتلك القدرة على تفكيك المشكلة إلى مكوناتها الأساسية، بحيث يقودنا هذا التحليل إلى معرفة بواطن الخلل والقوة، ومن ثم اتخاذ القرار المناسب، والتحلي بالواقعية المبدئية التي تتجلى بامتلاك التفكير،المرونة والصلابة، التي تسمح له بحرية الحركة وإطلاقها ضمن قطبي الثابت والمتحرك،والواقع والممكن، والأساليب والأهداف، فالفكر القومي العربي التنويري الذي ننشده يكره الأفكار الجامدة، أو المجردة، فالفكرة المقبولة لديه، هي التي تنطلق من فهم الواقع، والاستفادة من معطياته وتناقضاته، وأن تجد لنفسها مجالها التطبيقي بعيداً عن التجريد النظري.فهو ليس القبول بالأمر الواقع، بل قراءة الواقع لا قراءة الأحلام والخيالات، قراءة دقيقة واعية متأنية، هي قراءة نضالية لتغيير الواقع،لا القفر فوقه والسقوط في الفراغ، وكسر الحصار الفكري المروج للهيمنة والخضوع لإرادة القطب الواحد، وتعرية العباءات الثقافية التي تحاول إلباس المصالح السياسية عباءات ثقافية، ورسم خريطة الصراع على أنها صراع ثقافي أو حضاري أو ديني، وليست صراعاً سياسياً.والأخذ بتكنولوجيا المعلومات باعتبارها أمضى الأسلحة في مواجهة ظواهر التعقد بسبب قدرتها على احتواء الكم الهائل من البيانات فهي أداة للتكامل المعرفي وللتوازن المجتمعي وأداة لصناعة الثقافة.
إن الفكر القومي العربي الذي نطمح إليه يجب أن يستند إلى ميثاق وطني مشترك متفق عليه وملزم ويؤسس لمنظومة تربوية خلقية جمالية تولي جميع عناصرها الاجتماعية والثقافية العناية الفائقة على قدم المساواة، فهي توحد ولا تفرق، تبني ولا تهدم،موضوعية بعيدة عن النزوات والعصبية والعواطف؛منظومة معرفية تؤمن بالمواطنة العربية إيماناً لا يشوبه شك أو تشويه،إنها ثقافة تطرد الجهل من عقول أبنائها، والخرافة من عقيدتهم، وتقيم الدولة الوطنية القومية وفق مشروع اجتماعي حقيقي متطور أساسه العلم والإصلاح وصلبه اقتصاد معرفي تقني وسبيله ديمقراطية عادلة، وإقامة جبهة ثقافية /فكرية مقاومة يقودها مفكرون قوميون مناضلون ومبدعون؛ بعيداً عن المؤسسات الفكرية المعلبة أو المسلوبة الإرادة لتبني برامج منقذة للفكر العربي القومي المقاوم تتصف بالثبات والتطور وتتفتح على الابتكار والاختراع والتجدد بمثل انفتاحها على الحضارات والثقافات بعقلانية وموضوعية ووفق ثقافة تعزز مفهوم الوحدة في إطار التنوع الغني لتحافظ على الشخصية العربية القومية، فكر مقاوم لكل مشاريع الهيمنة والصهينة والتحديات القاهرة التي تعمل على تفتيت وتقسيم الأمة في المجالات المختلفة.
        

العدد 1140 –  11-4-2023  

آخر الأخبار
مرحبة بقرار "الأوروبي" رفع العقوبات.. الخارجية: بداية فصل جديد في العلاقات السورية – الأوروبية روبيو يحثُّ الكونغرس على اتخاذ خطوات تشريعية لجذب الاستثمارات إلى سوريا الشيباني: قرار "الأوروبي" رفع العقوبات سيعزز الأمن والاستقرار والازدهار     في ذكرى رحيلها .. وردة الجزائرية أيقونة الفن العربي الأصيل الاتحاد الأوروبي يقرر رفع العقوبات عن سوريا.. د. محمد لـ "الثورة": انتعاش اقتصادي مرتقب وتحولات جيو... دمشق  عمرانياً  في  تشريح  واقعها   التخطيطي  السلطة  السياسية  استبدت  بتخطيط   خرب   هوية   المدين... رش المبيدات الحشرية مستمر في أحياء دمشق  مجلس تنسيق أعلى سوري – أردني..الشيباني: علاقاتنا تبشر بالازدهار .. الصفدي: نتشاطر التحديات والفرص  مشروع استجرار مياه الفرات إلى حسياء الصناعية للواجهة مجدداً  شحنة أدوية ومستلزمات طبية من "سانت يجيديو" السورية للتجارة تتريث في استثمار صالاتها  أسعار السيارات تتهاوى.. 80 بالمئة نسبة انخفاضها في اللاذقية .. د. ديروان لـ"الثورة": انعكاس لتحرير ا... الفواكه الصيفية ..مذاق لذيذ بسعر غال..خبير لـ"الثورة": تصديرها يؤثر على أسعارها والتكاليف غالية   لقاح الحجاج متوفر في صحة درعا  إصلاح خط الكهرباء الواصل بين محطتي الشيخ مسكين – الكسوة تطوير المهارات للتعامل مع الناجين من الاحتجاز القسري  تحديات صحية في ظل أزمات المياه والصرف الصحي.. "الصحة " الترصد الروتيني ونظام الإنذار المبكر لم يسجل... مدير تربية اللاذقية: أجواء امتحانية هادئة "فجر الحرية".. 70عملاً فنياً لطلاب الفنون بدرعا مبادرة أهلية بحماة لترميم مدرسة عبد العال السلوم