الثورة – ناصر منذر:
بين تضحيات أبطال الاستقلال، وبطولات رجال الجيش العربي السوري اليوم، وانتصاراتهم المنجزة على الإرهاب وداعميه، تأتي الذكرى السابعة والسبعون لجلاء آخر جندي فرنسي عن الأرض السورية، لتؤكد إصرار الشعب السوري على بتر ذراع كل غاز ومعتد، وتمسكه بخيار الدفاع عن الوطن ودحر مؤامرات الأعداء ومخططاتهم الاستعمارية مهما تبدلت أشكالهم وتغيرت أدواتهم، وتلونت شعاراتهم.
فقبل 77 عاما، عادت سورية حرة أبية، بعد أن أذلت المحتل الفرنسي، وأرغمته على الخروج صاغرا يجر أذيال الهزيمة والخيبة، واليوم يعيد السوريون كتابة التاريخ مجددا، وهم يواصلون بمختلف شرائحهم وانتماءاتهم خوض معركة المصير في مواجهة الحرب الإرهابية التي تشنها قوى الاستعمار القديم والجديد، والتي تنوعت أشكالها بدءا من الاعتداءات العسكرية على الأرض، والجرائم التي يرتكبها الإرهابيون، وعمليات السرقة والنهب لثرواتنا النفطية، ومحاصيلنا الزراعية، وصولا إلى الإرهاب الاقتصادي والنفسي، عبر سياسة فرض الحصار الخانق الذي يستهدف السوريين في لقمة عيشهم، فيسطرون أروع الملاحم البطولية، مستمدين قوتهم من تضحيات الأجداد الذين حافظوا بدمائهم الطاهرة على وحدة واستقلال بلدهم، والتي تجسدت من خلال الثورات الوطنية في الشمال وجبال الساحل وحوران وجبل العرب والزاوية ومنطقة الجزيرة وحماة وغوطتي دمشق، قادها مناضلون شرفاء أمثال سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وأحمد مريود وفوزي القاوقجي وحسن الخراط وسعيد العاص ومحمود الفاعور وغيرهم الكثيرين، مكرسة وحدة الدم السوري في مواجهة الاستعمار ومخططاته التقسيمية، لتثبت أن طريق الاستقلال والسيادة والخلاص من الاستعمار لا بد أن يعبّد بدماء الشهداء.
الجلاء كان ثمرة نضال خاضه الشعب السوري على مدار أكثر من 25 عاما في مقارعة المحتل الفرنسي حتى أرغموه على الخروج صاغرا يجر أذيال الهزيمة، فجلاء هذا المستعمِر كان نتيجة حتمية لخيار المقاومة منذ أن حاول هذا المستعمِر فرض شروطه على سورية عبر ما سمي انذار غورو في الـ 14 من تموز عام 1920 والذي حمل مطالب لا يمكن القبول بها، بينها تسريح الجيش وقبول الانتداب الفرنسي دون شروط، فتصدى له أبناء شعبنا بما يملكونه من إيمان وعزيمة واستشهد العديد منهم في معركة غير متكافئة، والتاريخ لايزال يستحضر معركة ميسلون المحفورة في الذاكرة وبسالة قائدها وشهيدها وزير الحربية آنذاك يوسف العظمة وبقية أبطالها وشهدائها كعلامة مضيئة في تاريخ سورية والعرب أجمعين، فهي تختصر أسمى معاني التضحية والدفاع عن عزة الوطن وكرامة أهله، وأثبتت أن السوريين لا يمكن أن يقبلوا الذل ولو كانت حياتهم الثمن لذلك.
ولأن الشعب العربي السوري كان يعلم منذ فجر الجلاء أن حماية الاستقلال بكل معانيه السياسية والاقتصادية والثقافية ستكون المهمة الأصعب بعد إنجازه، فقد كرس السوريون عبر العقود الماضية عقولهم وخبراتهم وكل إمكانيات ومقدرات أرضهم الخيرة لبناء سورية الحديثة المستقلة وكان ذلك سببا مباشراً في توالي المؤامرات عليها ومحاولات التدخل الخارجي في شؤونها لحرفها عن هدفها الوطني والقومي، ولكن هذا الشعب الذي اختار طريق المقاومة، وأنجز استقلاله بفضل نضال وتضحيات أبنائه، يؤكد اليوم أنه أكثر صلابة وقوة وعزيمة من أجل الذود عن حياض وطنه، والتصدي لصناع الإرهاب وداعميه، مستلهما قيمه الوطنية من رجال الاستقلال وزعماء الثورة السورية وأبطالها الذين أثبتوا أن الجلاء ليس هبة من المستعمر بل نصر مؤزر صنعته تضحيات شعبنا الذي كان كفاحه البطولي مضرب مثل لشعوب العالم الطامحة لحريتها واستقلالها.
اليوم نحتفي بذكرى الجلاء ونحن أكثر قوة وصلابة وتصميما على دحر الإرهاب ورعاته.. والدروس التي رسخها هذا الإنجاز الوطني العظيم ستظل حاضرة في أذهان كل السوريين، فمعاني الاستقلال رسخت عظمة التضحيات التي تُبذل للدفاع عن أرضنا وحقوقنا وسيادتنا الوطنية، ورجال الحق أبطال الجيش العربي السوري يجسدون تلك المعاني النبيلة بتسطيرهم أروع ملاحم البطولة, ويرسمون ملامح غد مشرق يليق بكبرياء سورية وعظمتها وحضارتها.