الملحق الثقافي:
«الشعر هو أن تبني لأبجدية هوّز معبداً، تتصوفُ به، لترتلها مرةً، وتقترفها ذنوباً على ورقٍ مرةً أخرى، ثم تتوضأ بالحروفِ فتتطهّر، الشعر أن تقرأ من نافذة قد هجرتها وجوه الناس لغة المطر، وتسرح في حقلةِ التأمل مد النظر، والشعر أن تقول للغاوين اتبعوني فأنا الوحي المنتظر، الشعر هو أن تملكك حاسة سابعة تسيطر عليك وتبحر بك إلى أعالي موج المشاعر وأقصى أمداء بحور الكلام، حيث إنك في بحر الشعر تعوم وأنت على يقين أنك لن تستقر، تمتطي صهوة أمواجه العاتية فتتجلى». بهذه التعريفات عرّفت الشاعرة والإعلامية رنا بدري سلّوم الشعر، فاتحة لكتابها الأول في مجال البحوث والدراسات «جلّنار الكلام» وهو مقالات ودراسات في شعر فرحان الخطيب، طباعة دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، والتي أعدّته وبوّبته وقدّمته واستعانت كما ذكرت في مقدمة الكتاب بدراسات مفصلية متخصّصة، وبقراءات انطباعيّة وإعلاميّة لإصدارات الخطيب الثمانية التي جذبت أقلام النقّاد والدارسين إليها، ومن يقرأ الآراء المتفاوتة والمتباينة لأكثر من أربعين ناقداً وشاعراً وأديباً وإعلامياً سورياً وعربياً، يلحظ عمق الرؤية النقديّة في تجربته، ومدى تطورها، وهذا ما يضفي على الكتاب قيمة فكريّة وأدبيّة مضاعفة، فهو لا يوثّق تجربة شاعر وحسب، بل يوثّق مقالات لأدباء أكاديميين، ونقّاد متخصصين، نفخر بهم لما يضيفون من مخزون ثقافي وأدبي بدا واضحاً في المقالات التي عرضتها سلوم على بابين، فكما كتبت «من خلال قراءتي للدراسات التي تناولت مجموعات الشاعر، وجدت كثيراً من الموضوعات المشتركة بينهم، فجمعت كل ما يتعلق بموضوع واحد من عدّة مقالات لعدّة نقّاد، واخترت لها عنواناً يتناسب والموضوع وقد ساعدني الشاعر في الاستدلال على أماكنها في الصحف والمجلات المحفوظة لديه، لأن الأمر لم يكن باليسير أو السهل، وما جاء في الباب الأول يندرج تحت هذه العناوين: من تلّة خضراء، هواجس الذات الشاعرة، عشق الأرض، جديلة الشمس، فلسطين قرنفلة اللظى، مشاكسة نزار قباني، العنوان تحيّة المبدع الأولى للمتلقي، واحة الطفولة، للموت طعم الكبرياء، ومضات ناقدة. أما في الباب الثاني يختلف الأمر فقد وجدت الكاتبة وكما ذكرت أنه من غير الممكن أن تتجزأ دراسة إلى عدّة مواضيع لا تقبل التفكيك، فهي إما دراسة تنضوي تحت عنوان واحد في ديوان واحد، كالحداثة في القصيدة العامودية في ديوان «فيض قلب» وإما تكون دراسة لقصيدة واحدة والتوغّل فيها فنيّاً، وفي هذا استبعاد كلّي لتجزئة هذه الدراسة أو تلك، وقد احتوى الباب على عنوانات: برعمة الشّعر الأولى، جماليّة الصورة وإثارتها المشهديّة، تجليّات الحداثة في القصيدة العامودية، تقنيّات الأسلوب في شعريّة الومضة، عذوبة الإيقاع وسحر الخيال، سيماء العنوان بين الدلالة والانزياح، فيض من الشّعر وغيرها من عنوانات استحوذت اهتمام النقّاد والمتخصصين.
العتبة النصيّة الأولى
عكفت الدراسات الأدبيّة مؤخراً على دراسة العنوان قبل البدء بدراسة أي نص أدبي، شعراً أم قصّة أم رواية، وأفرد النقّاد لهذا الأمر كتباً وبحوثاً، ووضعوا النظريّات التي تؤكد الاهتمام بالعنوان كونه المدخل أو العتبة النصيّة الأولى لدراسة أي عمل أدبي، وهو ما يشدنا إلى عنوان الكتاب «جلّنار الكلام» ونحن ندري أن معنى جلّنار هو زهر الرّمان المثيرة للنظر تفتح شهيّة الحواس فتسعد الروح عند النظر إليها بهذا قد فتحت الكاتبة سلّوم قريحة القارئ وتساؤله عن جمالية ما يحمل مضمون الكلام وجلّناره، هذا عن اختيار الكاتبة لعنوانها، أما عن عنوانات اختارها الشاعر الخطيب لمجموعاته الشعريّة فيكتب في هذا السياق الدكتور جميل حمداوي من المغرب: «يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية نظراً لكونه مدخلاً أساسياً في قراءة الإبداع الأدبي والتخيلي بصفة عامة، ومن المعلوم أن العنوان هو عتبة النص وبدايته وإشارته الأولى وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره، وهو أيضاً من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلّة الأيقونية».
مختارات.. لابد منها
اخترنا مما كتبت سلّوم «لم تكن المرأة عند الشاعر فرحان الخطيب صفة مشبهة، بقدر ما هي الفاعل في تشكيل أبجديته، لتحيا في روح القصيدة وتتنفس معناها في جلّ صفاتها فهي الأم والأخت والابنة والزوجة والحبيبة والوطن» وفي عنوان «مشاكسة الشاعر نزار قباني» كتبت: لقد قرأنا وسمعنا أن كثيراً من الشعراء عارضوا بعضهم أو كتبوا قصائد تحاكي قصائد آخرين منهم، والأمثلة التي تدل على ذلك حفظها لنا كتب الأدب، ولست في صدد ذكرها الآن ولكننا في حالة أخرى اعتبرتها مشاكسة للشاعر نزار قباني من الشاعر الخطيب، وقد أثارت هذه المشاكسة كثيراً من الآراء حولها، ولكننا نعرض الآن للآراء التي كتبها ونشرها أصحابها فكانت بمنزلة وثيقة يمكن الاعتماد عليها، والاستشهاد بها، ونقدم هنا الآراء الثلاثة التي حضرت، وناقشت، وبيّنت، وجهة نظرها عندما عارض الشاعر فرحان الخطيب الشاعر نزار قباني في قصيدته، ومن الآراء رأي الزميل الأديب رياض طبرة، فكتب:
مرّت قبل أسابيع على صديقي الشاعر فرحان الخطيب غادةٌ حسناء، أحضرت ما أحضرت معها من عطر، ومن عبير الكلام، ولما لم تجد من الإحراج بداً سألته هل قرأت نزار قباني في قوله:
ضعي أظافركِ الحمراء في عنقي ولا تكوني معي شاة ولا حملاً
وقاوميني بما أوتيتِ من حيلٍ إذا أتيتكِ كالبركان مشتعلاً
أحلى الشفاه التي تعصي وأسوؤها تلك الشفاه التي دوماً تقول بلى
فقال لها وقد اعتبر هذا السؤال سؤال العارف، تحدياً له في أن يقول شيئاً مثل هذا الرائع الذي قاله نزار، فقال لها: مري غداً، واستمهلها حتى ارتحل على ناقته إلى وادي عبقر، وعاد بهذه الأبيات:
ضعي أناملكِ الخضراء فوق يدي لينبت الكف طلا واللمى عسلاً
إنا عشيقاً، لسنا في منازلةٍ فلا تكوني كذئبٍ، أو أكن حملاً
فنحنُ اثنان في ثغر الهوى قبلٌ وأجملُ العشقِ ألا نمنع القبلا
فمسالميني، وذوقي شهد مملكتي إذا أتيتكِ قولي: مرحباً وهلا
مسك الكلام
«يقول أراجون ليس هناك شعر ما لم يكن هناك تأمل في اللغة» وهو ما أكده الدكتور فندي الدعبل فكتب»بناء عليه تمارس اللغة سلطة الإغواء على الشاعر، فتحيله إلى صيّاد يتقن اقتناص سواح الكلام، وهذا حال فرحان الخطيب فتارة نراه يحتقب الماضي، فلا تبدو لغته عنيدةً ممانعة، بل ليّنة مطواعة وتارة يجدد الشاعر شباب اللغة، فنجده يدأب في الاشتغال على عذوبة اللغة وسلاستها، ويبتعد عن الألفاظ الباردة الخالية من أية طاقة تصويرية أو دلالية أو إيحائية، وتارة ثالثة نتلمّس حرارة مجمره القادرة على صهر اللغة وتطويعها بما تفرضه وتتطلبه التجربة الشعريّة المشبعة بروح البحث والمقارنة».
العدد 1144 – 16-5-2023