الملحق الثقافي- د. مصطفى الكيلاني – تونس:
يستوقِفُنا بَدْءاً عنوانُ هذه المجموعة الشعريّة الجديدة لهادي دانيال (نَشْرُ دار الشنفرى بتونس،2023) الذي يُنَبِّهُنا بكثيفِ صورةٍ تذهب بعيداً في السِرياليّة، ومفادها التقريبيّ مَشْهَدٌ لِعالَمٍ مَسكون بفوضى العلامات وَمُنْفَلِت الدّلالات.. وقد ساعدَ فَنُّ التشكيلِ بريشةِ الرّسّامِ رامي شَعْبُو، وباستخدام البياض والسواد، على تقريب حالاتٍ طيفيّة مُزدحمة في عميق جُوّانيّةِ الشاعر إلى القارئ، وبمخصوص القراءة، هذه القراءة.
فيبدأ «العَزْفُ السمفونيّ» مجازاً شِعْرِيّاً، وهو عَزْفٌ صامِتٌ صاخِبٌ مَعاً، تحرص به الذاتُ الشاعرة على تعمير نزْر قليلٍ من خواء شاسِع مُذهِل ضاغِط على روحِ الإنّيِّ، وهو يتلجْلج بين ألَمٍ وأَمَل، وبين رغبة وأخرى بالمنقطِع المتكرّر.. وإذا القصيدة، وهي تتشكّل أوْ تنكتب، تنفتح على عزف ملتبس، كفراغٍ رحِميّ يستقبل بَذرةَ حياةٍ ناشئة وَيُخْفي سِرَّةَ أسراره.. هذا التّشكُّل البدئيّ هو إعلانٌ بَدئيّ لشاعريّةِ النفي وجماليّة الفوضى المُبدعة ترْبك منطقَ اللغة المُعتاد وتُجازف في توصيف الحال المبهمة بجديد الاستعارات والكنايات: «ذاكرة الأصابع، لا النافية المتكرّرة، عزف العُمُر، مدينة العَدَم…».
كمشهد مُغَيَّم وكثيف السواد، قليل البياض، شديد الَعَدَمِيّة تنطلق حكايةُ الموصوف الشِّعريّ في «كأوركسترا ينتف المايسترو أجنحتَها»، لتنبلجَ عن هذا الموصوف نقطةُ ضوء تسلّلت إلى الرّكح حيث العزف الأوركستراليّ الصاخب صمتاً، الصامت صَخَباً بأطياف الأشياء والحركات المُتَخَيَّلَة، وبمرئيٍّ لا مرئيّ، إذا جازت العِبارة: «كأس ويسكي، سيجار كوبيّ، خدود الأطفال، عُيُون العُشّاق…».
نُقطة ضوء بادئة، إذَنْ، تُحَوِّلُ مَجرى الكتابة من النفي المحض وشبهِ مُطلقِ العَدَميّة إلى واقعيّة خافتة، تقريباً، وإنْ ظَلَّ الموصوفُ سابحاً في كثيف عتمته الجوّانيّة.
هي نقطة ضوء تنبعث أيضاً من عميقِ جُوَّانِيّةِ الشاعر الواصِف الحالم يقظةً، لحظةَ الكتابة، وهو يتطلّع في الأثناء إلى الشمس، «شمسنا البعيدة».
ويتّسِع مدى الكشْف بنقطة الضوء المذكورة المنبعثة من عميق الداخل الجُوانيّ ليظهر رُكح للعزف باللحظة المكثّفة بعميم حِينيّتِها، تستقدم إلى المشهد الموصوف أحداثاً من ماضٍ قريب (بوتين والحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وبداية تشكُّل زمن تاريخيّ جديد…)، ومن ماضٍ بعيد بشمسه التي لا تغيب، بل لا يُمكِن أن تغيب، وإنْ حَجبَتْها وقائع، كَجُمْلَةٍ موسيقيّة مُتكرّرة (لازمة – Leitmotiv) تُضفي على لحن الوُجود الإنسانيّ بهجةً خاصّة (أشقر الكرملين، لينين، بوشكين…).
لقد بَدَأَ العزف، في هذا الطور الثاني من موصوف هادي دانيال، يُسفِر عن معنى مَّا لإيجاب حادث بعد الإيجاب الذي كان في تاريخ يقينه الإنّيّ الخاصّ لمّا نزعت القصيدة إلى الإفهام تصريحاً بالمقاومة وأداء المتعدد من المواقف (مواقفه) النضاليّة.
ما عاد الشاعرُ، هُنا، مُكتفياً بالرؤية سَنَداً رئيساً لتوصيفِ حالاته ومواقفه، بل تَطَلَّبَ فعْل الكتابة الشِّعريّة بتنامي وعيها وتَطَوُّر أوضاعها معاضدةَ الرؤية بالسماع في مُتخَيَّل كِتابيّ أبعَد في الاقتدار على مقاربة «المبهم الشبحيّ في النفس»، على حدّ عبارة جبرا ابراهيم جبرا.. فللشاعر، بهذا الطوْر الحادث استماعُه، بل استماعاته إلى «لحنه» الخاصّ الجُوانيّ حيث تشتغل العلامات والدلالات وَصْلاً بين مكانيْن (تونس ودمشق) لكيان واحد مُشتَرَك، وبالنّهائيّ واللانهائيّ لحظةً وزَمَناً، فيستحيل «العزف» بمُطلق تسمية الإله إلى «صلاة» من أجْل «الوطن»، وإلى استغاثةٍ لإنقاذ ما حَلَّ بهذا الوطن من خراب.
يَتغيّرُ المكان في رحلة الشاعر واقِعاً من تونس إلى دمشق، ومنها إلى اللاذقيّة.. فيصطدم الشاعر بِواقِعِ وَطَنٍ مُنْتَهَكٍ مُسْتَنْزَف: «بلد يُصارع نفسه» (ص33).
وكأنّ الشاعر مُتَعَمِّد لِمُجَرَّد الإلماح، في هذه المجموعة الشِّعرِيّة، إلى وصف مأساة الوطن وما انتهى إليه شَعْبُه الأبيّ من ضَنَكِ عَيْش، وغير راغب في التّفَجُّع والتَّظَلُّمِ، مُتَرَفِّعاً مُتَحَدِّياً مُقاوِماً أو غاضِباً مُؤثِراً بلاغة التلميح لا التصريح…
وَجَعُ الشاعر عند حدوث الصدمة ثمّ العودة من سورية إلى تونس تَحَوَّلَ من الوقائع الحسّيّة المباشرة إلى صُوَرٍ تزدحم بالتّذَكُّرِ والرغبة معاً في استعادة وحدة وطن استباح الغُزاةُ بعضَ أراضيه: «أرض كستْها راية الغازي-وخناجرُ العُمَلاء» (ص41).
إنّ الفاجعةَ أو الوجيعة، هنا، أمَضُّ من أن تَسَعَها قصيدة، فكان التّوغُّل الاضطراريّ في عميق الدّاخل الجُوانيّ بالمزيد المزيد من الالتفاف الداخليّ واللواذ استعارةً ب»المقام الصعب – بين البرق والرّعْد!» (ص46).
فيحضر الوطن (سوريّة) بالبُعْدِ أكثر منه بالقرب في هذه المجموعة الشعريّة، بل إنّ صدمةَ الشاعر لِهوْل ما أبصره يحدث لوطنه ظلَّ يعتمل في داخلِهِ زمَناً، فتشكّلَت آثارُه الدامية في عميق داخلهِ الجُوانيّ وأنشأت حالاً نادرةً من الكتابة المُخصِبَة المُدهِشَة هي جديد هادي دانيال في هذا الطور من عُمُر القصيدة وَمُبدِعِها.
إنّ جديد الشاعر في هذه المجموعة، مقارنةً بين سابق تجربة الكِتابة ولاحِقِها، هو استقدام الاستعارة الموسيقيّة إلى بلاغة القصيدة، بالأبعد أداءً من الإيقاع عند تَمثُّلِ لاعبيّة الكتابة الشّعريّة موصولةً بلاعبيّةِ الوُجود، كأن تكتسب الموسيقا بالشِّعر في عالَم هادي دانيال الشِّعريّ دلالة العزف النازف يشي بالانجراح وبالعَدَم، منشئ الوُجود ذاته وساكنه، وبالحدوث الزّمَني لَحظاتٍ تليها لحظاتٌ، وبِنفادٍ للقوّةِ يليه نفادٌ، وإلى آخر نفادٍ.
عزفٌ/نزفٌ، إذَنْ، أوْ عزْف نازِفٌ ونزفٌ عازِفٌ هو مُختَصَرُ المشهد الموصوف شِعْراً بحال الشاهد (الشاعر).
-5-
يُتَمَثَّلُ العالَمُ، والوطن منه، سمفونيّةَ عَزْفٍ ونَزْفٍ بِلَحْنٍ سِرياليّ حيث الأصواتُ أوجاعُ صمت والأصمات نزيف حالات، وذلك بأقصى الحنين، وبالمرأة تجسيد للرغبة المُتدفِّقة حياةً، وباللحْن يُدْرَكُ بذاكرة السّماع، وبالإحالة تحديداً إلى «شوبان»، الموسيقار الفرنسي، و»رحمانوف» الروسي، ومختلف الصوَر بالمُتَخَيَّلِ السمعيّ عند ذكر «خرير الماء» حيث «الينابيع» و»الرمل» و»البيت الجبَليّ» (ص50)…
كذا اللحنُ، هنا، فهو عازف، والوَجَع نازف بمعزوفِ آلةٍ واحدة (السوناتا)، لعلّه معزوف الكمنجة أو آلة نفخ أو قيثار بمُفرد الأداء اللحنيّ، ليتماهى أداء الشاعر وأداء العازف، ضمْنَ أداء واحد مُشْتَرَك في خارطة عالَم مهزوز مُستَباح مسكون بالخراب، مُبهَم كحال الشاعر العازف مجازاً تَدَّاخَلُ بها المأساةُ والملهاة بِضَحِكٍ باكٍ أو بُكاءٍ ضاحِك، وفي طريقٍ بلا وُصول، ومفادُ الراحلة «بغْل الأمَل» (ص58)، والرحلة تَوَغُّلٌ في «غُبارٍ طويل» واستبداد «العمى» لغِيابِ أيّ دليل على الطريق، وتهاوي كُلّ المرجعيّات، تقريباً، بَعْدَ الذي حدث للوطن…
-6-
يشتدّ العزْفُ شِعراً ببالِغ الارتباك وفائضِ النّزْف الموجِع، وذلك بِعَزْفٍ آخَر لآلَةٍ مُنفردة (سوناتا أخرى)، موضوع هذا العزْفُ: «شَعْبٌ بلا يَدَيْن». والعازِفُ، في هذه المَرّة، هو «باخ» الألمانيّ.. أمّا آلة العَزْف، وقد صرَّح الشاعر بها، فهي البيانو. فالحُرُوفُ لُغَةً شِعريّةً تتآلَفُ، و»نوتات» الكتابة الموسيقيّة مجازاً مُشتَرَكاً يتشكّلُ صُوَراً عند السماع وما يُحدِثُ في عميق النفس من وَقْعٍ يُوقِظُ عدداً من الذكريات حيث بعضٌ كثيرٌ من آثار وقائع حياةٍ ماضيَة في سوريّة، وما له صِلَة أيضاً بفلسطين، ليتشكّل في الأثناء وعيٌ مُطلَق نسبيّ أو نسبيّ مُطلَق لحظةَ السماع ذاتها: «فاختلط الخالد بالبائد» (ص73).
وإذا العالَمُ بِمرئيِّ الشاعر ومسموعِهِ نزْف عازف لوجع يذهب بإنِّيّةِ الشاعر إلى الأبعَد كونيّةً، وبكثيف الدلالات الأُسطوريّة ووقائع الجرائم التي اقترَفَها الإنسان في حقِّ أخيه الإنسان، منذ أوّل الخلْق وإلى «الزمن الأميركيّ»، ومروراً بكُلّ الأطوار والوقائع في تاريخ الجرائم المُقْتَرَفة، حتّى لكأنّ تاريخَ العالَم حَدَثٌ واحِدٌ هُو الجريمة المُتكرّرة، وإنْ تَغيّرَت الأزمنةُ والأسماءُ مِن قَتَلَةٍ وضحايا.. فكأنّ سمفونيّة العالَم العازفة بمختلف العُصور نَزْفٌ مسترسل لفوضى كونيّة وإنْ ظاهِرها نُظُم وقِيَم ومبادئ،. ووجْه العالَم دمامة يحرص الإنسان على تجميلها بالكذب المُخادِع وإخفاء الجُثَث والجثامين وما لا يُتَحَمَّل من مشاهد الذّبْح والحرائق والاغتصاب والروائح الكريهة، ليتجدّد في الأثناء تاريخُ الجريمة، ويستمرّ العزفُ السمفونيّ (عزف الكون) توازياً مع النّزْف.. وبالعَوْد أو التّكرار ذاته تتعاقب الرغبات والآلام، والأحلام والآثام، فكأنّه لا إنسان، ولا تاريخ لإنسان إلّا بالجريمة، بالقاتل والقتيل، وبما مُخْتَصَره «قابيل» و»هابيل»، «السيّد» و «العبْد»، الغاصب والمُغتَصَب، المعتدي والمعتدَى عليه..، وإذا لا أُفُق خارج دائرة التكرار.
العدد 1144 – 16-5-2023