الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
لم يكن الأدب خالداً إلا لأنه يعني الحياة، والحياة التي تخلو من العطاء والحب ليست حياة والأدب الذي لايقف عند هذه التخوم ويعمل على استلهامها أيضاً ليس أدباً، من هنا نجد الأعمال الخالدة هي تلك التي فعلت هذا ولأن الإبداعات الأدبية قاطرات تعبر العصور، تتوقف حيناً ليصعد إليها جيل جديد ثم تنطلق ثانية بعد أن يغادرها جيل سبقه، تأتي رائعة «ستاندال، ثروة الحب» للكاتب والناقد الفرنسي الكبير فيليب سولير التي صدرت عن دار غاليمار، لتحملنا إلى ماضٍ قريب لاتزال ظلاله تنعكس في مرآة الحاضر، ماضي حب ستاندال لعشيقته مينا فيسكونتي في البندقية الإيطالية.
الباحث فيليب سولير (الذي توفى منذ ايام وهو اشهر ناقد فرنسي في العصر الحديث) كتب عن فولتير وكازانوفا ونيتشه وداني ورامبو يتوقف في محطته الجديدة عند أدب ستاندال يلتقي فيها مع أديب ميلانو ويشاركه في أمور كثيرة حيث يتبادل سولير وعملاق الرواية (ستاندال) الانطباعات عن الحب وعاطفته السامية، تلك العاطفة الوجدانية الراقية التي تخلص الإنسان من عذابات هذا العالم الفاني.
ويختار الكاتب خلفية للقصة فيسرد أحداثاً تتجاوز الرواية في مخيلتها ففي «ثروة الحب» يتجسس البطل على علاقة حب في البندقية يقيمها الكاتب مع حسناء تنحدر من سلالة ميتيلدا التي أثارت شجن ستاندال وحملت له المرارة والعذاب، ويتخيل في القصة أن الثنائي يقيم في شقة عند إحدى أقنية الأنهار في البندقية.
تقوم بين الحسناء والشاب علاقة حب وتعلق كبير يخيم عليه الصمت مع النزهات فوق الغوندولات، ويحضر ستاندال في مواقف اللهو العاطفي في حين يصمت سولير ويفكر في تلك العلاقة التي دونها ستاندال في يومياته، فبين سولير وصديقه القديم الحديث هناك سيل من العواطف والأسرار وأسماء مستعارة ورموز تحتاج إلى تفكيك.. كل منهما يسعى لأن يفهمه الآخر ويقرأه وأن يحقق النجاح في الحب كما في الكتابة.
الحب.. هذا الركن الذي يلتقي فيه الطرفان ويستوعب كل منهما الآخر، أما الحسناء مينا فهي شريكة مثالية قريبة مخلصة ومتحررة، إنها رمز الحب الذواق، ففي المعجم الستاندالي هي أقرب إلى سان سفيرينا الحيوية منها إلى كلليا الرومانسية.
حول تلك المفاهيم والمشاعر ينسج سولير عبر ستاندال مستقبل الرجل والمرأة والأدب والسياسة والموسيقا، مستقبل مشاعر تتلون على شكل أرابيسك حول ذلك التيار الذي جاء به الروائي الكبير ستاندال، الذي شب منذ يفاعته على الحب وأصبحت مشاعره محور حياته.
ولد ستاندال عام 1783 وتوفي عام 1842 كان جده طبيباً غنياً عضواً في البرلمان وكان شديد التعلق بحفيده، وما إن أتم دراسته في مدارس بوليتكنيك في باريس حتى بدأ يشعر أن العالم فتح له ذراعيه فغادر إلى إيطاليا ليغرم بالموسيقا ثم ينخرط في السلك العسكري ويجوب إيطاليا مع الجنرال ميشو، ثم يعود إلى باريس ليخوض علاقات غرامية مع عدة نساء مثل فيكتورين وأديل.
كان طموحه أن يكتب مسرحيات كوميدية على غرار موليير لكن وقوعه في شباك الممثلة المسرحية ميلاني دفعه لمرافقتها إلى مرسيليا إنما سرعان ماهجرها والتزم بالجيش الفرنسي الذي ذهب إلى ألمانيا وأصبح عاشقاً لنابليون في تلك الفترة.
فذهب مع قوات نابليون إلى برلين ودرس الفلسفة الألمانية ثم غادر إلى ستراسبورغ وفيينا، وعندما اتجهت قوات نابليون إلى روسيا التحق بها ثانية وأقام في موسكو ليعود بعدها إلى برلين ثم إلى فرنسا مع سقوط نابليون.
لكن حنينه إلى ميلانو بقي يؤرقه ليعود إليها ويلتقي هناك ميتيلدا الحسناء فيذهبان إلى فلورانسا بحثاً عن السعادة، وخلال تلك المرحلة انطلقت مسيرته الأدبية فنشر: «حياة هايدن» ثم «موزارت» ثم «قصة الرسم في إيطاليا» وبعدها دراسات عشقه ل ميتيلدا في «مسيرة روما نابولي وفلورانسا».
وبعدها كتابه عن الحب عام 1822 «البلوره» ويعتبر من أهم نظرياته في الحب التي هي عبارة عن عملية إعادة صياغة الواقع وفق رغبات المحب.
(انقطع ستندال بين عامي 1810و1814 عن الكتابة، ليتفرغ للبحث عن مكانة اجتماعية، فسافر إلى ألمانيا موظفاً في البعثة العسكرية، وشارك من هناك في الحملة العسكرية على روسيا، كما سعى جاهداً للحصول على وظيفة مقرر في مجلس الدولة، ثم صار باروناً.. وفي عام 1815 بدأ بالتوقيع باسم ستندال، و نشر في باريس عدداً من الكتب الناجحة مثل: «تاريخ التصوير في إيطاليا». ثم نشر عام 1822 دراسته الشهيرة «عن الحب» r التي أطلق فيها نظريته المعروفة باسم «البَلْوَرة» L التي تعني تلك الحالة النفسية التي ينسب فيها المحب إلى محبوبه أفراحه وأحلامه وكأنها مصدر الكمال وغايته.. وفي عام 1825، بعد أن أصدر كتابين عن «راسين» و«شكسبير»، كتب بحثاً بعنوان «حول مؤامرة جديدة ضد الصناعيين» أطلق فيه مصطلح «الطبقة المفكّرة» e عارض فيه الرأسمالية البرجوازية والأرستقراطية صاحبة الامتيازات.. وتتميز كتاباته، في هذه المرحلة، بالانتقاد المتزايد لفرنسا التي فقدت أصالتها ولخلافها الدائم مع بلد أحلامه إيطاليا.)
تحول ستندال نحو الكتابة الروائية، وكان ذلك قطيعة وقفزة نوعية في مسيرته الأدبية؛ إذ كان يعتبر الرواية جنساً أدبياً مبتذلاً وسهلاً تنقصه الأصالة.. لكنه وجد أن بمقدور الرواية أن تظهر الفرادة والخصوصية، وهو ما لم تكن الكتابة النفسانية الطاغية على كتاباته الشخصية قادرة على الإحاطة به.. فكتب روايته الأولى (آرمانس)
وعن نظريته حول الرومانسية فقد نشر «يوميات باريس» وبعد موت ميتيلدا عام 1825 نشر عدة أعمال مثل «نزهات في روما» بعد لقائه لامارتين.
أما أشهر روائعه فهي رواية «الأحمر والأسود» ثم «بائعة الخبز» التي عرفت رواجاً منقطع النظير وغيرها الكثير من الروايات مثل «لامييل» و«المراسلات».
ستاندال الذي تجاهله معاصروه عمداً لكن عبارته التي تخلده:
أنا أكتب كمن يسحب ورقة يانصيب، ما أتمناه أن يقرأني جيل 1935، هاهو اليوم وكأنه ضرب موعداً مع الأجيال لتصعد إلى قاطرته، ففي مطلع الألفية الثالثة لاتزال أعماله موضع بحث ومتابعة.
العدد 1144 – 16-5-2023