د. محمد الحوراني
لا ريبَ في أنّ حضورَ سورية القمّة العربيّة (٣٢) في مدينة جدّة في المملكة العربيّة السعوديّة يُمثّلُ خطوةً إيجابيةً في الاتجاه الصحيح، وهو الاتجاهُ الذي حرَصَتْ عليه الدولةُ السوريةُ في أصعب الظروف وفي أحلكِ الأوقات، ذلكَ أنّ التضامُنَ العربيّ، والحِرصَ على وحدة الصّفِّ، وتعزيزَ العمل العربيّ المُشترَك، وتأكيدَ مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة، وتعزيزَ الجهود لتحرير فلسطين واستعادةِ شعبِها حُقوقَهُ المُغتصَبة، ووضع حدّ للجرائم الصهيونية بحقّ أبناء هذا الشعب الأبيّ، كلُّ ذلك يندرجُ ضمنَ أهمِّ ما تَميّزَ به الخطابُ السياسيُّ والإعلاميّ والثقافيّ والتعليميّ السوريّ في فترة الحرب الإرهابية التي شُنَّتْ على سورية.
وإذا كان بعضُ المُحلّلينَ السياسيّينَ والكُتّاب قد تخلّى عن ثوابته ومبادئه التي طالما تحدّثَ عنها في أثناء اثني عشرَ عاماً من الحرب، فإننا نُؤكِّدُ أنّ هذه العودةَ السورية إلى جامعة الدُّوَل العربيّة ما كانت لتحدُثَ لولا دماءُ الشهداء الذين بذلُوا أرواحَهم لتبقى الدولةُ السوريةُ شامخةً، والعلمُ السوريُّ خفّاقاً، والمبادئُ الوطنيّةُ ثابتةً على مرِّ الزمن ثباتَ أبناءِ هذا الشعب الأبيّ.
نعم، لقد كانتْ سورية، ولا تزالُ، الأحرصَ على وحدة الصّفِّ العربيّ وعلى إنجاح كُلِّ جهدٍ في هذا الاتجاه، بل إنّ العُروبةَ كانت لدى سورية، ولا تزالُ، انتماءً، ولم تكُنْ في يوم من الأيام حِضْناً، وهو ما أكَّدَهُ الرئيسُ السوريُّ بشّار الأسد في كلمتِهِ التي ألقاها في القمّة.
ولعلَّ أهمَّ ما يُمكِنُ قولُهُ وتأكيدُهُ هُنا، هو أنّ قمّةَ جدّة لا تملكُ العصا السحريةَ لإنهاء المُشكلات التي تُعاني منها الأمّةُ العربية والدُّولُ الإقليمية ودُوَلُ العالم، كما أنّ الرخاءَ الاقتصاديَّ والرفاهَ لن يتحقّقا بمَحْضِ انتهاءِ أعمالِ هذه القمّةِ وعودةِ القادة العرب إلى دُوَلهم، لكنْ حينَ تتوافَرُ الإرادةُ الصادقةُ لدى الزُّعماء العرب فإنَّ هذه القمّةَ يُمكنُ أن تكونَ البدايةَ لتضافُرِ الجهود العربيّة في سبيل التخفيف من المُعاناة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي يعيشُها المُواطنُ العربيُّ في دُوَلِهِ كافّة، وهو ما يعني بالضرورة وَضْعَ حدٍّ للحُروبِ القائمة هُنا وهُناكَ في الدُّوَلِ العربيّة ودُوَلِ العالم، إضافةً إلى العملِ على وَضْعِ حدٍّ لاحتلالِ فلسطين وأجزاءٍ من سورية، سواء من الكيان الصهيونيّ أم من الأمريكان والأتراك وأعوانهم.
رُبّما تعني هذه القمّة، فيما تعنيه، يقينَ الغالبيّة العُظمى من القادة العرب بإخفاقِ ما سُمِّيَ “الربيع العربيّ”، الذي كانَ الثباتُ السوريُّ هُوَ الرُّكْنَ الأساسَ في إخفاقِهِ، وهو إخفاقٌ مَنَعَ وُصولَ الإرهاب والدمار إلى كثيرٍ من الدُّوَلِ العربيّة والإقليميّة والعالميّة، ولمّا أدركَ بعضُ القادة خُطورةَ هذا المشروع التكفيريّ الإرهابيّ الإخوانيّ العُثمانيّ، كانَ لا بُدَّ من بذلِ الجهود في سبيلِ إعادة بناءِ العلاقات بينَ الدُّوَلِ على أساسِ المصالح المُشترَكة، وهي مصالحُ لا تتحقّقُ بوجودِ تنظيماتٍ إرهابيّة تكفرُ بدولةِ المُواطَنةِ والديمقراطيّة، ولا تُؤمِنُ إلّا بالدولة الدِّينيّة الثيوقراطيّة، كما أنَّ هذه المصالحَ لا تتحقّقُ إذا ما استمرّتْ حالةُ الانسداد الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ في غالبيّةِ الدُّوَلِ العربيّة.
إن كثيراً من الحروب لم يُسهِمْ إلّا في زيادة الدمار والخراب وتمزيق الأوطان، ولهذا غدا من الواجب على كُلِّ من يمتلكُ الحدَّ الأدنى من الوعي أن يشتغلَ على تعزيزِ مفهوم المُواطَنة، وعلى بناءِ دولةِ القيمِ والإنسانية، والعمل على كلِّ ما من شأنِهِ أن يضعَ حدّاً لمُحاولاتِ التحريض العِرقيّ والإثنيّ والطائفيّ، ويُعزّزَ ثقافةَ الانتماء والإنسانيّة القائمة على التسامُحِ بينَ أبناء الأمّة والتَّمسُّك بثوابتها ومبادئها، وعلى رأسِها فلسطين.
إنّ أوّلَ ما يجبُ علينا تأكيدُهُ هو التَّمسُّكُ بثوابتِ الثقافة والقيم والأخلاق والتربية وتعزيزها في عُقولِ الناشئة وقلوبهم، وهي الثقافةُ التي يُمكِنُ أن تكونَ الدِّرْعَ الواقيةَ لأمّتِنا من كُلِّ الهجمات والاعتداءات التي يُمكِنُ أن تتعرَّضَ لها مُستقبَلاً.
إنَّ التحدّياتِ التي تُواجِهُ جامعةَ الدُّوَل العربيّة والقمّة العربيّة (٣٢) في جدّة كبيرة، وهي تحدّياتٌ لا تقتصرُ على العمل على وحدةِ الصَّفِّ العربيّ، بل تتعدّاهُ إلى العمل جِدّيّاً لوضعِ حدٍّ لمُعاناةِ الشعب العربيّ في دُوَلِهِ كافّة، ولاسيّما سورية ومصر ولبنان وفلسطين والصومال، وكذلك اليمن والسودان وليبيا وغيرها من الدُّوَل التي تُعاني من المجاعة والحروب والفقر والواقع الاقتصاديّ المُتردّي، في الوقت الذي يذهبُ فيهِ كثيرٌ من مواردِ الأمّة وعوائدها إلى الغرب والأعداء، كما أنّنا في أمسِّ الحاجة إلى وضعِ استراتيجية عربيّةٍ خاصّةٍ بأبناء الأمّة العربيّة من الأطفال والشباب، هذه الشريحة التي تمتلكُ كثيراً من الكفاءات والإمكانات والخِبرات، لكنّها لا تتمتّعُ بأيٍّ من الحقوق في غالبيّةِ دُوَلِها، ولذا فإنّها غالباً ما تختارُ الذَّهابَ بعيداً عن موطنِها وأهلِها رغبةً في تحقيق ما تصبُو إليه.
لقد آنَ الأوانُ لعملٍ عربيٍّ مُشترَكٍ نابعٍ من وعي قوميٍّ وقيميّ إنسانيّ، وإيمانٍ مُطلَقٍ بالعمل لمصلحةِ أبناء الأمّة دُونَ تمييز بينَ دولةٍ وأُخرى، وهو ما من شأنِهِ أن يُعيدَ إلى الأمّةِ العربية مكانتَها بين الأُمَم.وإنَّ المُتغيّراتِ الإيجابيّةَ التي تشهدُها العلاقاتُ بينَ غيرِ دولةٍ عربيّة وإقليمية وعالمية، من شأنها أن تدفعَ زُعماءَ الأمّة إلى العمل بما يعودُ بالمنفعة على أبناء الأمة، وأن يُسهِمَ في إعادة بناءِ دُوَلِهم وثقافتهم بما يُعزِّزُ الوعيَ والفكرَ والانتماء، لأنّهُ هو الضمانةُ الوحيدةُ لحماية الأمّة.