يمن سليمان عباس:
كان ذلك عام ١٩٨٢ م الكيان الصهيوني الغاشم يبدأ اجتياحا بريا للبنان المقاومة اللبنانية، والجيش السوري ومعهما المقاومة الفلسطينية يتصدون ببسالة منقطعة النظير للعدوان، بينما كانت وسائل إعلام بعض الدول المطبعة تعزف نشازها ..
المشهد السياسي حالك ..وسط هذا السواد الذي تراكم فوق سواد حياة الشاعر خليل حاوي كان القشة التي جعلت البندقية تصوب نحو الرأس ليرحل احتجاجا على ما يجري.
وفي الدراسات الكثيرة التي تنشر كل عام بذكرى رحيله تستوقفنا دراسة مهمة نشرها
أحمد إبراهيم إسماعيل في موقع عربي بوست، حلل فيها معاناة حاوي مع الحياة ومع خطيبته ديزي الأمير ويبدأ الدراسة بمقطع من رسالة وجهها حاوي إليها إذ يقول :
“لا تسألي لماذا؟ لماذا زَحفتُ إليكِ فيما بعد؟ ولماذا تمسكتُ بكِ بأظافري وأعصابي وقلبي؟ كنتُ أطلب النجاةَ وكنتُ أكافحُ من أجلِها، كنتُ أودُّ أن أحيا ثانيةً، أن أولدَ ثانيةً، وكنتُ بلا مُعين، وحدي أقاسي ألَمَ المخاض، ألَمَ من تتمخّض ولا تَلِد”.
وحسب اسماعيل دائما فإن
هذه إحدى رسائل خليل حاوي، الشاعر المتمرد المتوتر السوداوي على الدوام إلى ديزي الأمير، الوحيدة التي هزمت كبرياءَه ومرَّغَتْ غرورَ قلبِه.
خليل كان شاعراً لبنانياً أنيق اللغة جداً، لكنه كان متشائماً للغاية، وعنده أنفة كبيرة، ولم يضعفه في حياته شيء إلا حبه لديزي الأمير، القاصة العراقية الفذَّة، التي عانت الكثير هي الأخرى من حياة المهجر، ولم تعُد للعراق إلا جثةً بعد عمر اثنين وثمانين عاماً كاملة؛ لأن روحها لم تطاوعها أن ترى العراقَ بعد المأساة.
المعاناةُ مَفرَخَةُ الفنون، كان هذا هو تلخيصُ حياةِ خليل، كأنه قد كُتِبَ على جبينه: أنا تفسيرُ ذلك.
اما عقبات حياته فهي كثيرة كما يقول اسماعيل:
(خليل عانى كثيراً في حياته على كل المستويات، عمل في مهنٍ عدة منها الإسكافي، وعمل المعمار، وبعد سنين من معاناته تلك بسبب (لقمة العيش) عاد للدراسة الثانوية ثم الجامعية وتخرَّجَ وهو أكبر بسنواتٍ من أقرانه.
إحدى المآسي الأخرى في حياة خليل كان موت شقيقته الصغرى المحببة إليه جداً أوليڤيا، كأنّ المآسي أبَتْ إلا أن تُحقِّقَ أحلامها كلَّها فيه.
كان والد خليل يعمل في مدينة “بوارج” بالبقاع في لبنان، وفي سنةٍ من السنين اصطحبَ عائلتَه معه، زوجته وابنه وابنته، لكنَّ الطفلة أوليڤيا تصابُ بحمى شديدة، وحين أحسَّ الوالدان باقتراب موتها نقلا الطفل خليل إلى الشوير، مدينتِهم الأصلية، وحين كان يسأل عنها بعد موتها كانوا يتحجَّجون بالعديد من الأعذار، منها مثلاً أنها انتقلتْ لمدرسة داخلية في بيروت، خليل قال عن هذا بعد سنين في أواخر حياته: “غريب أمر هذه الطفلة! مازلتُ إلى اليوم أتَرَقَّبُ عودتها وهي لا تأتي، أين أنتِ يا أوليفيا؟!”.
خليل إنسان ذهب في رحلة مع العمر ثم عاد وحده! وصف معركتَه مع نفسه بأنه “ارتعبَ حين رأى سحر الزمن”، كان هذا تعليقُه على النساء اللواتي تعلَّقَ بهنَّ في مراهقته وبداية شبابه في بلدته الشوير وما حولها، وكان حين يعود بعد سنين إلى موطنه يَراهُنَّ وقد أصبحنَ أمهاتٍ؛ بل ومنهنَّ جدَّات! مثل فتاة كرم العنب التي كان يلاحقها في صباه في أيام قطف العنب فيتبادلان أحاديثَ مخنوقة لم تكفِه أو تكفِها، رحل عن الشوير ليعمل بالمعمار، ثم عاد ليجدها أُماً، ثم جدَّة، وهو بعدُ في مكانه.
وظلَّ هكذا حتى أوقعَتْ قلبَه تلك الفتاة العراقيةُ بديعةُ الطلَّة، ديزي الأمير.
تعرّف خليل حاوي على ديزي الأمير، وتطوّرت علاقتهما بسرعة، وعندما سافر هو للحصول على الدكتوراه من كامبريدج بعد قصة كفاح دراسية كبيرة، ظلّت بينهما الرسائل لسنوات.
بعد مدة لحقتْ به ديزي على أمل أن يتزوَّجا، وظلتْ معه شهوراً، لكن ذلك لم يحدث لعدة أسباب، تقول ديزي عن ذلك: “إن خليل ليس عصرياً، فهو لا يعتني بهندامه، ولا يشتري ألبسة جديدة، وهو لا يريد أن يغير أثاث شقته عندما يتزوج”.
خليل أخبرها أن (هذه ظروفه) وهو ليس غنياً كفايةً ليفعل ذلك؛ فعادت إلى لبنان وتزوَّجتْ.).
ويحسب لخليل حاوي انه من أهم شعراء الحداثة في الشعر العربي ..
وكان صاحب رؤيا ونبوءة في شعره وظف الرموز بشكل جمالي جعله رائدا في التكثيف و المزاوجة بين الإصالة والحداثة.
ولعله كان يقرأ نبوءة رحيله اذ قال :
عرفتُ كيف تمطُّ أَرجلها الدقائقُ
كيف تجمد، تستحيل إلى عصورْ
وغدوتُ كهفًا في كهوف الشطِّ
يدمغ جبهتي
ليلٌ تحجَّر في الصخورْ
وتركتُ خيل البحر تعلكُ
لحم أحشائي
تغيِّبه بصحراءِ المدى
عاينتُ رعب زوارقٍ
تهوي مكسَّرة الصدى،
عبثًا يدوِّي عبر أقبيتي الصدى