الملحق الثقافي- علم عبد اللطيف:
في إطار توثيق التراث غير المادي. الثقافي في سورية، وأيضاً المادي المتمثل بإصدار دوريات ومجلات وصحف في مرحلة مهمة من تاريخ سورية. مرحلة بنائها كدولة. مؤسسات وبنى فوقية وتحتية. يمكننا الرجوع إلى فترة ثلاثينات القرن المنصرم. وتقديم بعض الوثائق المهمة في مسيرة ثقافة السوريين. سنتحدث هنا عن مجلة النهضة. التي قام بإصدارها المرحوم الدكتور وجيه محي الدين في طرطوس..
ولم تكن محافظة في ذلك الحين..وكانت المجلة تطبع في طرابلس. (ما ذُكِرَتْ اليقظة الفكرية المباركة في هذا الجبل العربي، إلا ذُكِرَتْ مجلة النهضة التي أرسلتها حياة وأدباً وتجدداً وانعتاقاً.. وما ذُكرت النهضة إلا ذُكِرَ وجيه محي الدين الذي أنشأها، فكان أباها الحدب، وكانت ابنته البكر، حسناء هذه الجبال، فاسم وجيه محي الدين قد انحلَّ وذاب في لفظة النهضة، وأصبح فكرة لشعب لا اسماً لشخص، وإرثاً معنوياً لأمةٍ وتاريخها، لا مُلكاً مادياً لعائلة ضمن حدود كنيتها وحياتها، ونهضة وجيه محي الدين في الحس العام والفهم العام، وضمن حدود معينة، أصبحت حاجة معنوية، بل مادية ملحّة لشعب طالع، ومحيط في بدء يقظته الفكرية والاجتماعية حاجة في إدراكها غذاء وصحة، وفي حرمانها جوع وعلة..)
بهذه الكلمات تحدث المحامي والمثقف الطليعي (زاهي عرنوق) عن مجلة النهضة.. وعن صاحبها ومصدرها الدكتور المرحوم وجيه محي الدين. وكان الأستاذ عرنوق قد حاول إكمال مسيرة النهضة بعد وفاة مؤسسها الدكتور وجيه المفاجئ، فصدرت أعداد ثلاثة منها.. في /1939/..تحمل اسمه مع اسم (محي الدين محي الدين).. ابن عم المرحوم وجيه، ولد الدكتور وجيه في عام/1908/.. في جورة الجواميس – طرطوس- وتلقى دراسته في مدرسة الفرير في طرابلس، عام 1922/ وانتقل الى مدرسة (عينطورة) في لبنان الجنوبي، وعاد بعدها ليتلقى علومه في كلية الشرق الوطنية في طرطوس، ونال البكالوريا في /1929/ وانتسب بعدها إلى كلية الطب بدمشق، وتخرج فيها عام/1936/ طبيباً. كان شاباً تملؤه الحماسة للعمل الوطني، وكان همه المساهمة في تغيير الواقع البائس لمحيطه الذي ولد فيه، فقرر أن يصدر مجلة النهضة.. يقول في المقال الافتتاحي الذي تصدر العدد الأول من مجلة النهضة في شهر تشرين الثاني عام 1937/..(إن هذه الفكرة – فكرة إنشاء مجلة- كانت تساور نفسي منذ فجر عهدي بالدراسة الطبية..).. ويستطرد في أهداف المجلة ومشروعها التنويري..(الكفاح ضد الرجعية، ونبذ الطائفية الممقوته، وبث روح التآلف والإخاء بين مختلف أبناء هذا الشعب، فتكون هذه الصحيفة كمنبر حر يتبارى عليه كل من أعطاه الله نصيباً وافراً من حسن الذوق الأدبي والثقافة العالية والتضحية في المثل العليا.. هذه هي غايتي، وهذا هو مبدئي، وهذه هي فكرتي، أزفها لإخواني في هذه البلاد، وفيما وراء البحار، علني أحظى بما أتوقعه من حسن القبول، وبما تتطلبه النهضة من التوسع والانتشار.. وآمل في أن يأخذ إخواني بناصري، فأتوصل في العام المقبل لجعل الصحيفة أسبوعية، تطرق كل المواضيع حتى السياسية منها، ونطاق أوسع، ومادة أغزر، خدمة لشعبي وبلادي، والله من وراء القصد..) صدر من المجلة منذ تشرين الثاني 1937/ وحتى وفاة وجيه محي الدين عشرة أعداد.. كان صاحبها ومديرها المسؤول.. وكان الشاعر حامد حسن مديراً للتحرير فيه.. ثم تناوب على رئاسة التحرير فيها كل من الشاعر نديم محمد..ومحمد عبد الرحيم، وعبود أحمد..، ويوسف أحمد علي، وبعد وفاة صاحبها الدكتور وجيه.. أكملت المجلة صدورها بثلاثة أعداد.. كان صاحباها المحامي زاهي عرنوق ومحي الدين محي الدين.. منذ نيسان 1939 وكان صاحباها في العدد الأخير منها محي الدين محي الدين وزاهي عرنوق.. ومدير الإدارة فيه المحامي يوسف تقلا.. وسكرتير التحرير محمد عبد الرحيم.. ثم توقفت عن الصدور بعدها.. أي في تموز 1939. حفلت المجلة بمواضيع مهمة، ومتقدمة في طرحها الثقافي والمعرفي والتحرري التنويري.. ففي العدد الاول.. كان هناك دراسة بعنوان(مذهب النشوء وأثر الوراثة)..و(هل حققت المدنية كل أحلام الإنسانية).. و(أثر الفرد في المجموع)..و(الفيلسوف ابن سينا بعد 900 سنة من وفاته).. و(المنزل والمدرسة)..و(الأدب الشعري في هذه البلاد)..و..(علماؤنا والتأليف).. و(العراك العالمي بين الأدبين البرجوازي والشعبي..)..إضافة إلى الهوية الأدبية الطاغية في صفحات المجلة من شعر ونثر.. وترجمات. ولاقت إقبالاً وقبولاً لافتين من أدباء ومثقفين متعطشين للكتابة وتقديم إبداعاتهم ونتاجهم، وكان لتوقفها بسبب وفاة صاحبها الدكتور وجيه مايشبه الصدمة لدى من كان متحمساً لها.. ويهمهم أن تبقى مشروعاً تنويرياً وثقافياً في منطقة لا يوجد فيها صحافة ولا مجلات. ولأنها كانت منبراً لأفكارهم وإنتاجهم الأدبي. يُشار إلى أن المرحوم الدكتور وجيه محي الدين، الذي افتتح عيادة طبية في مدينة طرطوس، كان يُعنى بالفقراء الذين لا يمكنهم التداوي على نفقتهم.. وقلما كان يتقاضى مقابل المعاينة الطبية أي مبالغ.. وعندما اجتاح مرض التيفوئيد جزيرة أرواد سنة 1938.. ذهب بنفسه لمداواة المرضى فيها.. وبذل جهوداً مهمة في مساعدة المرضى، لكنه أصيب بالمرض بالعدوى.. فتم نقله إلى بيروت للمعالجة لكنه توفي بالمرض الذي أراد أن يبعده عن الناس. بقيت المجلة محفوظة بأعدادها لدى كل المهتمين والقراء في بيوتهم.. وحتى الآن. وقد تم جمع أعداد المجلة من قبل أقرباء المرحوم الدكتور وجيه في مجلد واحد، ويمكن الحصول عليه منهم…
ومما تجده في المواقع الإلكترونية عن مجلة النهضة:(جاءت النهضة، بعد أن خلت الساحة من النور والتجدد والأماني وكان مبدأ المجلة، كما عبرت عنه افتتاحية العدد الأول: «الكفاح ضد الرجعية، ونبذ الطائفية الممقوتة والسير وراء المجد والسؤدد بتضامن وإخلاص، وبث روح التآلف والإخاء بين مختلف أبناء هذا الشعب، فتكون هذه الصحيفة كمنبر يتبارى عليه كل من أعطاه الله نصيباً وافراً من حس الذوق الأدبي، والثقافة العالية، والتضحية في سبيل المثل العليا».
وقد ظهرت على صفحات المجلة أسماء كثيرة منها ما كان معروفاً، وله حضوره الأدبي، ومن أصحابها من نزل إلى معترك الحياة الأدبية لأول مرة، فسار خطواته الأولى على صفحات المجلة.
اهتمت النهضة بالقصة القصيرة فنشرت أمام هيكل بعلبك للمجلة، فراشة ويراعة، يمامة وغراباً، ثعالب وقروداً لإبراهيم جمال الدين، وفاء امرأة لبهجت مخائيل منصور..
كما اهتمت بالأدب الأجنبي فنشرت ليالي آلفرد دوموسيه، ترجمة محمد علي علوش، هيلويز الجديدة لهوغو ترجمة أحمد المحمود، نشيد السائرين إلى الشمس لناظم حكمت، اعتراف فتاة روسية إلى صديقتها الفرنسية لـ ز.هيبيوس ترجمة زاهي عرنوق…
وحسب بعض الدراسات التي تابعتها والآراء التي قيلت فإنها كانت علامة مميزة ولكن مما يلاحظ أن هذه المجلة استعارت من الأماني زاوية «الرسائل الممزقة»، كما قلدتها في باب النقد، إذ أفردت باباً خاصاً بعنوان «معرض الشهر» للنقد، لكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه الأماني في هذا المجال.
ويؤخذ على المجلة أن تبويبها لم يكم جيداً، تتفوق عليها النور والتجدد والأماني، في هذا المجال عاشت النهضة سنة كاملة، ثم توفي صاحبها، فحاول شقيقه محي الدين محي الدين بالاشتراك مع المحامي زاهي عرنوق مواصلة إصدارها، لكن المحاولة فشلت ولم يصدر منها في سنتها الثانية سوى بضعة أعداد ثم توقفت.)
العدد 1147 – 13-6-2023