الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
نوري الرحيباني موسيقي سوري كبير، رحل عنّا في شهر آذار الفائت، بعد مسيرة طويلة مع الموسيقا زادت عن الستين عاماً. تخصص نوري بالموسيقا الأوروبية الكلاسيكية. وتعمّق فيها حتى غداً واحداً من نجومها، ليس في سورية فحسب بل في أوروبا، وتخصص في قيادة الفرقة السيمفونية، إضافة إلى كونه مؤلفاً موسيقياً وعازفاً على عدة آلات موسيقية مثل البيانو والكمان والماندولين والبانجو.
بدايات نوري الرحيباني الموسيقية كانت في مطلع خمسينات القرن العشرين في دمشق، عندما بدأ دراسة الموسيقا في دمشق على يد الموسيقي الكبير مصطفى الصواف. وبدأ نشاطه الموسيقي عازفاً على الماندولين ضمن فرقة الصواف الموسيقية، ثم شكّل ثنائياً مع هاني شموط الذي كان يعزف على آلة التشيللو، وأقاما عدة حفلات. وفي عام 1956 بدأ نوري أولى محاولات التأليف الموسيقي بالأسلوب الغربي، وفي عام 1957 كان ضمن الوفد السوري الذي شارك بمهرجان الشباب العالمي بموسكو عازفاً ضمن الفرقة الموسيقية.
في عام 1958 نال نوري الرحيباني الشهادة الثانوية، وانتسب على كلية الحقوق بجامعة دمشق، وانضم إلى الفرقة الموسيقية للرابطة الطلابية بالجامعة عازفاً على البانجو. وصادف أن أعلنت وزارة التربية عن بعثة لإيفاد موسيقيين للتخصص في أوروبا، فتقدّم إلى البعثة مع عدد كبير من المتقدمين، ونجح ضمن ستة من المتقدمين، وكان الأول عليهم، وتمّ إيفاده إلى ألمانيا الديمقراطية (سابقاً).
المرحلة الأولى من دراسة نوري الرحيباني في ألمانيا كانت في المعهد العالي للموسيقا في مدينة لايبزغ، حيث درس البيانو والتأليف الموسيقي والتوزيع الأوركسترالي . وبدأ هناك لأول مرة التأليف الموسيقي الجدي. وبعد أن اطلع أستاذه على مؤلفاته الموسيقية ، قال له: إنه يؤلف أشياء عادية مثل الأوروبيين، ونصحه أن يوزع مقطوعات من ألحان بلده، فقام بتوزيع لحني (ياغزيّل) و(يامايلة ع الغصون) اللذين غنتهما فيروز، وقدعالج اللحنين بحيث أصبحا مناسبين لآلة البيانو، وكانت تجربة مفيدة له. ومن وحي الموسيقا العربية وضع عدة مؤلفات أخرى مثل (سوناتا للكلارينيت والبيانو) و(متتالية لثلاث آلات)، وطبق عليها قواعد الهارموني وقواعد تطوير اللحن. لأن الموسيقا العربية تسير بشكل أفقي، بينما الموسيقا الغربية تسير بشكل عمودي، وتسير في الوقت نفسه بعدة ألحان. وقام عازف بيانو ألماني بعزف المتتالية في حفلات في سورية ومصر ولبنان. وبهذين المؤلفَين الموسيقيين ترسخ توجهه كمؤلف موسيقي.
بعد أن أنهى نوري الرحيباني المرحلة الأولى من دراسته في مدينة لايبزغ، التحق بدار أوبرا مدينة فرايك بألمانيا الديمقراطية أيضاً. وفيها عين مدرباً للكورال وقائداً مساعداً للأوركسترا. وهذا أتاح له التعرف على العمل الموسيقي مع الأوبرا، وكيف يتم تدريب المغنين والكورال، وأتيح له أن يقود الفرقة السيمفونية لدار الأوبرا في أوبريت (كريولن) للمؤلف الموسيقي الألماني جاك أوفن باخ .وأعجب القائمون على دار الأوبرا بقيادته للفرقة السيمفونية ، وحصل نتيجتها على منحة للدراسة العليا في قيادة الأوركسرا في مدينة درسدن. وقاد في تلك الفترة عرض أوبرا (لاترافيا) وأوبرا (ريغوليتو) للموسيقي فيردي، إضافة إلى قيادته الأوركسترا في أعمال أخرى.
استمرت دراسة نوري الرحيباني وعمله في درسدن حتى عام 1973. وخلالها درس على يد قائد الأوركسترا الشهير رودولف فول هاوس، وهو قائد أوبرا مدينة درسدن . وتدرب على قيادة إحدى الفرق السيمفونية الألمانية . وتمّ اختياره للذهاب إلى مدينة هاله التي فيها فرقة سيمفونية بقيادة المايسترو أولاف كوخ . وتعلم منه نوري أموراً كثيرة . وقاد الأوركسترا عدة مرات. وهذا ساعده على تطوير خبراته ومعلوماته. وفي نهاية دراسته في مدينة درسدن حصل على دبلوم آخر في قيادة الفرقة السيمفونية من المعهد العالي للموسيقا في المدينة. واعتمد خبيراً في موسيقا الموسيقي الألماني كارل أورف.
عُرف نوري رحيباني كواحد من أشهر وأقدر قادة الفرق السيمفونية في أوروبا وقاد الكثير منها. ومن أهمها قيادته للفرقة السيمفونية لمدينة سان بطرس بورغ الروسية، ونقل التلفزيون العربي السوري الحفلة على الهواء مباشرة، وقاد الفرقة السيمفونية لإذاعة برلين عدة مرات.
خلال عمله في ألمانيا لم ينقطع نوري الرحيباني عن زيارة بلده سورية، فكانت له زيارات دورية، قام خلالها بنشاطات عديدة. وقد تعرفت إليه حين زار سورية عام 1980 مع فرقة (هالا) لموسيقا الحجرة الألمانية (الشرقية)، وأقامت حفلة في صالة الحمراء بدمشق.وقاد الفرقة في القسم الثاني من الحفلة، وقدم فيها مؤلفاته الموسيقية، بينما قاد الفرقة في قسمها الأول قائدها الأصيل أولاف كوخ، وقدم فيه مختارات من الموسيقا العالمية. تتالت بعدها زياراته لسورية، وقاد خلالها الفرقة السيمفونية الوطنية السورية العديد من المرات، وخلا زياراته الكثيرة، كان لي معه لقاءات كثيرة، وأجريت معه عدة حوارات صحفية عن نشاطاته لجريدة الثورة.
نوري الرحيباني هو أول من أدخل طريقة (كارل أورف) الإيقاعية لموسيقا الأطفال إلى سورية، وفي زيارته عام 1980 أقام دورة لمعلمي الموسيقا في وزارة التربية على هذه الطريقة، وشكّل فرقة موسيقية من أطفال المعهد العربي للموسيقا بدمشق وقدّم معها حفلة موسيقية طبّق فيها طريقة كارل أورف.
في مجال التأليف الموسيقي ، وضع نوري الرحيباني العديد من المؤلفات الموسيقية للبيانو وفرق موسيقا الحجرة والفرق السيمفونية . وهو في مؤلفاته تلك يعتبر بحق موسيقياً قومياً، فمؤلفاته الموسيقية عبقة بروح الموسيقا العربية ، بل إن العديد من مؤلفاته بناها على مقطوعات موسيقية وألحان عربية. وإضافة إلى مؤلفاته الموسيقية التي تحدثنا عنها ، وضع عمل موسيقي يتغنى بالقمر (تغيرات على لحن بزوغ القمر)لآلة التشيلو والوتريات ، وعزفتها الفرقة السيمفونية لمدينة سان بطرس بورغ بروسيا في الحفلة التي قادها هو ضمن المهرجان الدولي للموسيقا، كما قدّمت في ألمانيا أيضاً. ومن مؤلفاته الموسيقية أيضاً متتالية من الألحان العربية من أربع حركات. الحركة الأولى: تحمل اسم (ذكريات)، واستخدم فيها لحن موشح (لما بدا يتثنى)، والحركة الثانية :(غناء هادئ) استخدم فيها لحن (يامايلة ع الغصون)، والحركة الثالثة: (سيرناد) بناه على لحن (هلالالاليا)، أما الحركة الرابعة :فوضعها على شكل لحن شعبي. وقدمت المتتالية في المهرجان الدولي بمدينة سان بطرسبورغ . وله أيضاً (مرثاة لجنين)، واستلهم نوري ألحان هذه المرثاة من صور الخراب والتدمير الدامي الذي خلفه الاجتياح الصهيوني لهذه المدينة الفلسطينية في الضفة الغربية، لذلك نجد أن موسيقا هذه المرثاة تتصف بالحزن والألم.
رحل نوري الرحيباني مساء يوم الجمعة الثالث من آذار عام(2023)، بعد مسيرة حافلة بالعطاء والنشاط، فكان بحقّ سفيرنا الموسيقي إلى العالم.
العدد 1147 – 13-6-2023