الملحق الثقافي- فاتن دعبول:
عندما يتبادر إلى الذهن مصطلح التوثيق ودوره في تجسير الصلة بين الماضي والحاضر، ندرك أهمية أن يكون لنا أرشيفنا الجمعي الذي يحمل في مضمونه تفاصيل حياتنا اليومية من العادات والتقاليد وأيامنا الثقافية ووقائع غيرت مجرى التاريخ، والكثير من ذاكرة البشر في غير عصر، لتصل إلينا وقد سجلت في صفحاتها الناصعات ذاكرة وهوية وانتماء.
إذا نحن أمام تراث غني عريق، يشكل منظومة معرفية تعكس أشكال عملية التطور الاجتماعي والتاريخي وترتبط بجوانب الأدب والفلسفة وتحفظ العادات والطقوس والحكمة والذاكرة الجمعية العامة، ومن هنا تنطلق أهمية جمع وتوثيق وصون الذاكرة والهوية، ونستطيع أن نؤكد أن التوثيق يشكل ذاكرة الوطن بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ولكن كيف عبر الكتّاب عن أهمية التوثيق ودوره في ترسيخ مفهوم الهوية وترسيخ معنى الانتماء الحقيقي؟
قيمة كبرى
يقول الدكتور حسين جمعة:
التوثيق ليس أمراً جديداً، وليس هو وليد هذا العصر، بل هو قديم وقد عرفه العرب منذ القرن الثاني الهجري، والسابع الميلادي.
والتوثيق في تعريفه، هو ذاكرة الأمة وثقافتها، على اعتبار أن الذاكرة الشفاهية لم تعد قادرة على استيعاب المعارف الموروثة، ومن هنا يصبح التوثيق حاجة وضرورة للشعوب والأمم، وهذه الضرورة تكمن في:
أولاًـ من أجل الحفاظ على تراثها وثقافتها.
ثانياًـ من أجل ترجمة كثير من الثقافات والتي يمكن أن تزود الأمة بمعارف جديدة.
ثالثاًـ التوثيق يستطيع أن يميز تراث هذه الأمة من تلك.
يقول الدكتور حسين جمعة: التدوين يشكل قيمة كبرى للحفاظ على الهوية والتراث والذاكرة الجمعية، مثله مثل الشعر وبقية الوسائل الأخرى كالآثار والموسيقا والعادات والتقاليد، بل إن التدوين يوثق هذه الأشياء، والتوثيق أيضاً هو تدوين لكل ما تحتاج إليه الأمة في حاضرها ومستقبلها، وإن كان التوثيق يختلف في أدواته وطرائقه، فقد كنا نوثق ما نملك بالكتب والكراسات والمؤتمرات والمجالس التي تنتقل إلى صفحات الكتب.
وكانت الوثائق قادرة على حفظ ذلك، فلما كثرت المعارف وابتكرت تقنيات جديدة، تغيرت طرائق التوثيق من المؤلفات والمصنفات إلى ما يعرف اليوم بالحاسوب والانترنيت والشابكة، وأصبحت هذه التقنية الجديدة الإلكترونية تقوم مقام المصنفات الورقية، فتحتفظ الأمم بوثائقها على قرض مدمج كي لا تضيع هذه الوثائق، ذات القيمة التاريخية والأخلاقية والمعرفية، وتحفظ لأجيال قادمة.
ويضيف: كلنا يعرف أن الأمم الغربية تحتفظ بذاكرة توثيقية ورقية وإلكترونية لكثير من الأحداث وخصوصاً ما هو سري منها، ولا يجوز إطلاع الناس عليه إلا بعد مرور 50 عاماً، وعندما تصدر هذه الوثائق، تبرز مدى الجرائم التي صنعتها الدول الاستعمارية في الدول الفقيرة.
التوثيق مهم جداً، لأننا أيضاً مشغولون بحيلتنا، وأصبحت ذواكرنا ضعيفة، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح، ما الذي نوثقه، وهل نوثق كل شيء.
بالحقيقة إن الأمم التي تحترم نفسها توثق كل ما هو جيد، وكل ما هو قبيح، لتتمسك بعد ذلك بالجيد، وتتخلص من القبيح فلا ترجع إليه.
أما نحن فللأسف بتنا نحتفظ بالوثائق التي تكون في صالحنا، أما التي تنتقد أفعالنا ولا تتفق مع أهوائنا، فإننا نتركها، والشيء الذي لا يجب أن نهمله، وأن نتنبه إليه هو لجوء البعض من الموثقين إلى الاختيار والاصطفاء، وهذا منهج خطير، لأننا أيضاً نختار ما يوافق أمزجتنا فيما يخص الوثيقة التاريخية التراثية ما لا يلائمنا ولا يوافقنا.
ويخلص بدوره إلى القول: التوثيق يعد أداة مهمة جداً لإحقاق الحقيقة، شرط أن يتحلى الموثّق أو الكاتب بالصدق والنزاهة والحياد.
أنا والتراث اللامادي
ويقول د.فاروق أسليم:
بدأت صلتي بالتراث اللامادي مبكراً، منذ طفولتي، فقد كنت مغرماً بمشاهدة طقوس الرقص العربي، وما يرافقها من مواويل وإيقاع ولعب بالسيف والترس والعمود»النبوت» وكنت كثير الإعجاب بسباق الخيل»الطراد» الذي حظيت به مدينتي إدلب أكثر من مرة بمناسبة عيد الجلاء، وكان المشاركون به فرساناً يأتون إلى الاحتفال من البادية.
وقرأت في طفولتي عدداً من السير الشعبية، وكنت كثير الإعجاب بتغريبة بني هلال وبأبطالها» أبو زيد الهلالي، الجازية أم محمد، القاضي عياض، السلطان حسن. «واستمعت أكثر من مرة إلى رواية شيء من سيرة عنترة في أحد المقاهي بإدلب، كما أعجبت بأبطال كتاب فتوح الشام للواقدي، وهو كتاب يجمع بين التاريخ والخيال الشعبي، ويرسم صوراً شائقة لأبطاله، وفي مقدمتهم خالد بن الوليد وضرار بن الخطاب وخولة بنت الأزور.
ويضيف أسليم: هذا النمط من القراءة منحني وعياً يرى في كل رجل كريم أعرفه بعضاً من خصال هؤلاء الأبطال، وهذا الوعي جزء أصيل من تكوين الهوية التي ننتمي إليها، ونتميز بها، علماً أن مناهج التعليم لم تكن تحفل بهذا النوع من التراث، وهذا ما جعل كثيراً منه عرضة للضياع والإهمال.
أول اهتمام لي بالتراث اللامادي كان في أثناء عملي بجامعة الإمارات العربية المتحدة» 2001ـ 2006» فقد لاحظت كثرة اهتمام دول الخليج العربي بتراثها اللامادي، وقد توجت اهتمامي به في كتابين.
أما الأول فهو تحقيقي لجزء من كتاب»الفروسية والمناصب الحربية، مدينة العين 2005» لنجم الدين حسن الرمّاح» ت، 5695» وهو بطل شعبي خبير بفنون القتال، وألف الكتاب ليكون ضمن ثقافة مقاومة الغزو الصليبي، وهو في تعليم القتال بالسيف والرمح والسهام وغير ذلك، لكن اللافت فيه تصويره لمشاهد شعبية احتفالية فروسية، يمكن إحياؤها وقد لا نجد ذكراً لها في غير هذا الكتاب.
وأما الكتاب الثاني فعنوانه «قراءات في الشعر الشعبي الإماراتي، أبو ظبي 2021» وفيه دراسة لعشرات القصائد من الشعر الشعبي الإماراتي قبل عصر النفط، مع مقارنة لها بالشعر العربي القديم، ولاسيما الجاهلي، لمعرفة مدى الانزياح في القيم وطرائق التعبير لدى الشاعر الشعبي بصفته وريثاً للشاعر القديم في الجزيرة العربية.
جهود فردية وجماعية
وفي سياق اهتمام سورية الواسع بتراثها اللامادي، كان إدراج اليونيسكو للقدود الحلبية في عام» 202» على لائحة التراث الإنساني، اعترافاً حضارياً بجانب من خصوصية الثقافة السورية، وكان هذا الاعتراف نتيجة حضور متميز لفن القدود لدى جمهور واسع من المتلقين، سورياً وعربياً وعالمياً، ونتيجة جهود فردية وجماعية، أسهمت في تحقيقها وزارة الثقافة السورية والأمانة العامة السورية للتنمية بخاصة.
وقد سارع اتحاد الكتاب العرب إلى المشاركة في الاحتفال بهذا الاعتراف، وتمثل ذلك في إصداره كتاب «القدود الحلبية، قراءات وشهادات» وهو من إعدادي وتحريري وتقديم د.محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب، وقد جمع الكتاب بين دفتيه أفكاراً وأخباراً هي نفسها من التراث اللامادي لكونها غير مدونة، إضافة إلى ما يعضد ذلك من مراجع تناولت القدود بالدراسة ومصادر حوت أسس هذا الفن العريق.
وقد شارك في تأليف هذا الكتاب سبعة باحثين من المنشغلين بالقدود الحلبية في مدينة حلب بخاصة، وفي ذلك إغناء للكتاب بأفكار وآراء قد تتباين وقد تتعاضد، إضافة إلى أمر مهم جداً، يكمن في أن أكثر المشاركين في تأليف الكتاب قد وثقوا للقارىء روايات شفوية ترجع إلى ما نقل إليهم أو ما عاينوه وعرفوه من مخالطتهم لأرباب فن القدود الحلبية في حلب وحمص بخاصة.
يضاف إلى ذلك انشغالي حالياً بإنجاز كتاب عن التراث اللامادي في محافظة حمص، وهو أوراق بحثية نوقشت في جامعة البعث بحمص، بمشاركة ثمانية باحثين متخصصين بالتراث اللامادي.
ويخلص بدوره إلى أن ثمة ضرورة ملحة لتوسع دائرة الاهتمام بتراثنا اللامادي، فالتغير السريع في أنماط الحياة الاجتماعية يسرّع في اندثار كثير من الفنون القولية واليدوية ومن العادات والتقاليد الاجتماعية، ما يستدعي وجود إجراءات عملية إسعافية لإحياء ما اندثر أو ما هو مهدد بالاندثار، إضافة إلى وجوب السعي لاستثمار ذلك مادياً بجعل الأماكن التراثية تستعيد بعض وظائفها القديمة لتكون معلماً سياحياً واضحاً لخصوصيتنا الثقافية ولعراقتنا التاريخية.
العدد 1147 – 13-6-2023