الملحق الثقافي- وفاء يونس:
قدم الدكتور حسام سبع محيي الدين دراسة مطولة حول التوثيق نشرتها مجلة العربي في العدد فكر العدد 774
مع العصر الحديث، اجتاحت رقمنة المعرفة مختلف الميادين، وتغيّر معها مفهوم البحث والكتابة وآلياته، وما يرتبط بهما من النشر الورقي والرقمي. إذ بات العالم يعيش موجة كبرى من تناقل البيانات المكتوبة رقميًا، ومن سهولة النسخ والانتحال، مما أغرق وسائل التواصل الرقمية بسيل هائل من الكتابات، والتي تفتقد أحيانًا الموثوقية العلمية بغياب الإسناد والتوثيق. بل إن بعض من امتهنوا الكتابة بشكل غير احترافي، استسهلوا عملية النقل قصًّا ولصقًا دون العودة إلى الأصل، مما أضاع هوية المنقول، وأفقده نسبه الأصلي بعد استبعاد معيار الأمانة العلمية التي هي من أهم صفات الباحث، في أي ميدان من الميادين.
هذه الطفرة في المنشورات الرقمية، دفعت جهات متخصصة إلى مواكبتها عبر أخلاقيات البحث العلمي وضرورة الإسناد، كما لجأت بعض الجهات الى ابتكار مواقع متخصصة (Plagiarism Checker) للتدقيق في النتاجات المطبوعة رقميًا، وذلك لضبط الانتحال.
وللتذكير بأهمية الإسناد في البحث العلمي، وأهميته من الضروري العودة إلى كيفية نشوئها وتطورها وصولًا إلى الشكل الحديث من خلال الأنماط المختلفة التي انتشرت اليوم في أكثر من صرح علمي.
ظهر علم الإسناد في العالم العربي في القرن الثاني للهجرة، لضبط رواية الحديث بين الصحيح والملفق. وقديمًا قيل: «الأسانيد أنساب الكتب». وقال عبداالله بن المبارك: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شـاء مـا شـاء». ولذلك دأب علماء العصر الإسلامي على اعتماد الأسانيد في روايتهم وكتابتهم، وتتبع سلسلة الرواة الذين نقلوا الخبر وصولًا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). وانتقلت هذه التقنية في التتبع بدايةً إلى كتابة السير والغزوات. ومن أهم كتاب المغازي محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وقد تميّز عن غيره من الرواة، في تدقيقه الحدث وربطه بتسلسُل الأحداث الزمنيّ. وهو ما شهد له به بعض المؤرّخين، أمثال الطبريّ (310/923) حينما قال إنّ الزُهريّ قد «سار خطوة مهمّةً حين اتّخذ الإسناد الجمعيّ بجمعه عدّة روايات في قصّة متسلسلة واحدة».
وعندما أتى عصر الكتابة، كان توثيق الرواية يتم إما في مجالس العلم والنقاشات من خلال السماع، وإما في مجالس الأمالي. فظهرت معايير علمية ضابطة لتوثيق المكتوب إضافة إلى إسناد متن النص، إذ كان الكاتب يلجأ بعد سماعه إلى إثبات ذلك، وتقييده في صدور المخطوطات، أو في ذيولها، وهو ما يطلق عليه لفظ: «السماع»، أو «الطباق».
وكان الكاتب يعرض ما كتبه مع كاتب موثوق آخر، وإلا اعتبر ما احتواه مخطوطه دون قيمة علمية. وروي عن عروة بن الزبير «أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب». وكان يعرض المخطوط على الشيخ العالم بعد إنهائه نسخًا ومقابلة، لكي يجيزه للطالب، قراءةً وإملاءً واستنساخًا.
ومع انتشار المخطوطات الورقية أضيفت معايير علمية جديدة ضابطة لإخراج النص بالشكل النهائي للعموم، فاعتمد العلماء مراحل توثيق: العرضْةَ (يقابل على نسخ موثوقة)، والإبرازة (نشر وتلقي ملاحظات)، والنسخةَ (نسخه أكثر من مرة). وقد أبرز بعض المؤلفين كتابه ست مرات، مثلما فعل أبوعمر الزاهد في كتابه «الياقوت»، وكان يزيد في كل مرة شيئًا عند قراءته عليه. وأملى على الناس عرضةً أخيرة لكتابه، واعتبر أي حرف يخالفها كذبًا عليه. وفي حال النسخ، كان التوثيق من خلال إجازات النسخ المثبتة على ظهور المخطوطات، ومن خلال الوقفيات التي تمنع نسخ المخطوط، وهي شبيهة بحقوق المؤلف اليوم. ولعل خوارج النص هذه، كما سماها المستشرقون فيما بعد، كانت تشبه الحواشي التي درج الباحثون على اعتمادها في عملية التأريخ في العصور الحديثة.
الحواشي السفلية
ومن أواخر القرن الخامس عشر، كانت الأنظار بدأت تتجه نحو أوروبا، حيث بدأت حركة الترجمة عن الحضارة العربية الإسلامية من خلال ثلاث قنوات فكرية: بيزنطة، صقلية، الأندلس. ولعل هذه الحواشي لفتت اهتمام العلماء في أوروبا. ويعتقد بعض المؤرخين أن أول ظهور للحواشي السفلية، في الكتب المطبوعة، يعود إلى إنجلترا، وتحديدً إلى ريتشارد هوغ (Richard Jugge)، الذي كان مسؤولًا عن الطباعة لدى الملكة إليزبيت، في أواخر القرن السادس عشر، إذ عند توليه طباعة الكتاب المقدس الأنجليكاني الجديد، تدخل (Jugge) في تاريخ الحاشية السفلية، حيث بدأ في نقل الملاحظات من الهوامش إلى مساحة مخصصة أسفل الصفحة، بغية تنظيم الصفحة.
في البداية، لم تكن وظيفة الحاشية السفلية واضحة أو موحدة لدى مختلف المؤلفين. كان معظم المؤرخين يقومون بتمييز بسيط بين النص والملاحظة: «النص يقنع، والملاحظات تثبت». وفي وقت مبكر من القرن السابع عشر، بعد كل النص المكتوب، أطلق بعض مؤرخي الآثار على الملاحق الوثائقية لأعمالهم ببساطة البراهين (Proofs). وظهرت الحواشي عند البعض كتقنية انبثقت عن تزاوج التاريخ مع فقه اللغة. وقد أتقن هذا المزج إدوارد جيبون، المؤرخ الإنجليزي في القرن الثامن عشر. ففي الكتاب المؤلف من ستة مجلدات بعنوان «تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، أدرج جيبون تعليقات فكاهية لجذب القارئ في مسيرة قراءته الطويلة.
وفي تطور لافت لوظيفة الحاشية، وضع فيما بعد، بايل ومن اتبعه من الكتاب ملاحظاتهم في الهامش على المبدأ الديكارتي لنقد النص. لقد اتخذوا الأساليب التي أوصى بها جان بودان، والتي مارسها جاك أوغست دي تو وآخرون، كأساس ملائم للبحث التاريخي الدقيق. وقد ابتكروا شكل الرواية المزدوجة، أي النص المرفق بالحجة والأدلة. وهكذا عزز (بايل) الانضباط التاريخي، بنقد النص، وإسناده بأدلة في الحاشية.
قلق المؤرخين
واستمر الجدل من جدوى ووظيفة استخدام الحواشي السفلية لدى العديد من المؤرخين، حيث كان هناك دومًا قلق لدى المؤرخين بشأن تبرير كتابة التاريخ أي إبراز الحجج والأدلة على النص المكتوب. ويبدو أن التوثيق والتعليق بحاشية سفلية بالمفهوم الحديث وجد بريقه في القرن التاسع عشر مع رواد ألمان مثل ليوبولد فون رانكه (Leopold von Ranke) (توفي عام 1886)، الذي حول التاريخ إلى أكثر من رواية قصص وسرد بحت، فأسس التاريخ الحديث المدعوم بمصادر التاريخ. وضعَ رانكه معايير للعديد من الكتابات التاريخية اللاحقة، حيث طرح أفكارًا تعتمد على المصادر الأساسية.
في عصر المنهج العلمي، بدا أيضًا أن الممارسة التاريخية تتطلب أسسًا أفضل في النقد – وهي قاعدة يزعم رانكي أنه يمكننا على أساسها أن نقول كيف كان الماضي حقًا. كان هدف رانكي بإزالة الغموض بالحاشية التوضيحية وإبعاد ظلال المعتمة عن الماضي السردي.
والواقع، كان لدى رانكي مكون واحد فقط لإضافته على المسار التطوري للحاشية، ولكنه كان بالغ الأهمية. لقد قام بتجسيد عملية البحث والنقد، جاعلًا من الحاشية والملحق النقدي مصدرًا للسرور وليس مناسبة للاعتذار. ابتكر العلماء المدققون في أوروبا في القرن السابع عشر العديد من سمات الممارسة التاريخية الحديثة. لكنهم نادرًا ما توقعوا توهج رانك الحماسي، وقدرته على الانغماس في غبار السجلات المتحللة تنبض بحماسة الاكتشاف والتفسير.
على الرغم من إتقانه لصيغة الملاحظات والحواشي، ظل جيبون لفترة طويلة متناقضًا بشأن العلاقة بين العلم والسرد. احتفظ بميل لتشويه سمعة ما وصفه بـ «المخطوطات المتربة والأسلوب الهمجي لسجلات العصر الوسيط». لكن رانكه جعل البحث والنقد ساحرًا ودراميًا – وهو الشيء الذي جذب الشباب للعمل في الندوات وكتابة الأطروحات والانضمام إلى المهنة التي كانت تتبلور، يمكن أن تجعل الحواشي السفلية أكثر شهرة من نصها. لا عجب أن الكثير من الشباب الأذكياء اختاروا مشاكل نقد المصدر كموضوعات لأطروحات الدكتوراه المشروحة جيدًا: المحتوى والشكل يتطابقان أخيرًا.
من خلال تقنيات التوثيق التي اعتمدها، حثّ ليوبولد فون رانكه المؤرّخين على التمسّك «بالمصادر الأوليّة» وتقارير شهود العيان، وما سماه رانكه «الوثائق الأكثر نقاءً وفورية»، وتجنّب الاعتماد على «مصادر ثانويّة» مثل المذكّرات التي تعود إلى ما بعد الحدث. وناقض إدوارد جيبون في الاعتماد فقط على المستندات المطبوعة والسجلّات المتوّفرة بشكل عام في المكتبات، بل أكّد على أهمية الأرشيف، ليشق المؤرخون طريقهم عبر الكمّ الهائل من الوثائق غير المنشورة من المخطوطات الأصليّة التي خزّنتها مستشاريّات الدولة في أوربا. ولعل التقنيّات التي طبّقها على المصادر التاريخيّة شكّلت الأساس لكثير من الأبحاث ولطريقة تعليم المنهجيّة التاريخيّة في العصر الحديث، لاسيما في توثيق الخبر وفي نقد المصادر.
التوثيق والإسناد
انتقلت الكتابة شيئًا فشيئًا من هوامش النص، إلى الحاشية السفلية، وولدت مع تحقيق المخطوطات وظهور أعمال المستشرقين عدة أنماط من التوثيق والإسناد. وصف مايكل بيرنايز أهمية الحواشي في الكتاب الأول لرانكه بقوله: «كل من يستحق قراءة رانكه، لا يمكنه القيام بذلك دون مراجعة ملاحظاته الفردية. ولكن الجميع يدرك أنه لا يمكن نقل المواد التي تحتوي عليها الحواشي إلى متن النص» .
ومع الوقت تطورت وظيفة الحواشي، وغدا استخدام الحواشي السفلية من أجل الأغراض الآتية: للاستشهاد بالمرجع أو المصدر، تقديم شروحات إضافية لا يحتملها النص الأصلي، تعليق بعيدًا عن السرد الرئيسي، تعريف بمصطلح أو بمكان أو بشخصية… إلخ. ويبدو أن حركة التطور في الإسناد وإدراج حاشية لم ولن تتوقف عند حدود معينة بعد أن اعتمد كثير من الباحثين والمؤرخين في عصرنا الحالي على الحاشية السفلية وفق نمط كلاسيكي متعارف عليه، إذ ها هي المدارس المختلفة في التوثيق تقدم كل واحدة منها نظامًا خاصًا له تفاصيله الدقيقة. والأكثر شهرة اليوم هي: نظام الـ APA، نظام MLA، نظام شيكاغو، نظام هارفارد، نظام فانكوفر. وقد أصدر كل من هذه المدارس مجلدًا توضيحيًا بنمط الإسناد والتوثيق لديه.
إن رحلة الإسناد في التأليف انطلقت منذ القرن الخامس للهجرة من توثيق الرواية داخل النص، واستمرت ردحًا من الزمن، حتى انتقلت علوم الإسناد إلى الغرب، وتنقلت خوارج النص من مكان إلى آخر، حتى استقرت في الحاشية السفلية. وتطورت وظيفة هذه الحواشي وصولًا إلى القواعد العلمية التي تعارفت عليها عدة مدارس، والتي أعاد بعضها التوثيق داخل النص (IN-Text citation)، مع الإبقاء على الشروحات في الحاشية السفلية. ولعل هذه الرحلة ستبقى تدهشنا بالمزيد ولاسيما مع انتشار النشر الإلكتروني لإلى جانب النشر الورقي، وابتداع طرق تتبع للإسناد، وإحصائه، فغدا للباحث رصيد معرفي يميز فيه حجم الاستناد إلى مؤلفه، في بحر متنام من رقمنة المعرفة. فهل تصل بالبحث العلمي إلى ضفاف؟!
العدد 1148 – 20-6-2023