الملحق الثقافي- أحلام غانم:
لماذا بائع الحكمة ؟
على صيغة سؤال استهل الكاتب «حافظ عبد الحميد حسين مقدّمة كتابه «ومضات في سماء الحكمة»
قبل البدء بالإجابة طافت في ذهني أسئلةٌ كثيرةٌ وضعتها بين يدي بائع الحكمة كومضة: كم في نعمة التفكير من آثار تنتظرنا في حاضرنا وقادم أيامنا!
على سبيل الحكمة
والله سبحانه وتعالى حكَمٌ حكيم، أنزل في مُحْكَم التنزيل (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة – 269)
فالحكمة هي سرُّ النظام الكوني، أساسٌ ثانٍ للملكوتِ الإلهي، وليس كونها الأساس الثاني أنها أقلُّ فضلاً وشرفاً من العلم، لأن الترتيبَ بينهما تكامليٌّ وليس تفاضلياً.
وتمثل الحكمة – وتوءمها : العرفان – الرصيد الذهبي في رأسمالنا المعرفي التراثي الحافل بالنزعات الأصولية المتطرّفة والمثقل بالتأويلات الفقهية التي تعمل على مصادرة العقل ..فالجميع يذكر الإمام الغزالي كيف فكّك العقل بالعقل ونذكر ذلك من خلال قوله: الحِكمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ حيثُما وجد المؤمنُ ضالَّتَهُ فلْيجْمَعْهَا إليه».
على سبيل الفن
والفن هو فيض من وحي الروح تقتبسه من عين الوجود ونواميس الكون لتجعلَ المادي المحدود يشعُّ بالمطلق المتسامي، وتتجلى فيه أشواق الإنسان الدفينة ما يجعل الروح ترفرف في ملكوت الله الواسع.
وأحسب أن توظيف التراث التنويري – وخاصة في جوانبه الصوفية والعرفانية -، يمثل موقفاً مهماً بعيداً عن جدل ثنائية التراث والمعاصرة، ويبقى نبعاً ثرياً للعقول التواقة للرؤى والكشوفات الفلسفية والذهنية.
العنوان
ما لا شك فيه أن فَهْمَ العنوان يسوق بالضرورة إلى فَهْمِ المضمون، فهو مرآةٌ عاكسةٌ، إنَّ إدراجَ الكاتبُ عنواناً لعمله الأدبي يحمل بعداً رمزياً صُبَّ في عبارةٍ موجزة: «ومضات في سماء الحكمة».
وتحديد معنى الحكمة من أصعب الأمور، شأنها في ذلك شأن الكلمات المعنوية العامة كالحرية والجمال والعدل..
والفلسفة غير الحكمة، وهما مختلفتان في المنبع والمصب ولكُلٍ طريقه، ولكُلٍ أدواته، وليست الفلسفة طبقة عليا بُنيت على الحكمة، ولكن الفلسفة والحكمة بيتان عاليان مختلفان.
وعليه يعد كتاب (ومضات في سماء الحكمة) الصادر عن دار أرواد للطباعة والنشر سورية – طرطوس- للكاتب حافظ عبد الحميد حسين، ومضة أخرى في سماء الفلسفة على طريق العروج إلى الروحانيات.
فقد وضع بين يديَّ عُصَارة فكره ومشاعره، فلا استسهلتُ أو استهنتُ بما بين يديَّ، بل حملته بمنتهى العناية، وتفحصته بكل اهتمام وعناية، وتعاملتُ معه بكل أمانة و احترام وتقدير.
تفاعلاً حياً ومباشراً مع عتبة العنوان عبر عتبة الإهداء إلى درجة التماهي والاندماج الكامل.
الطواف الفلسفي
حاول من خلالهما أي العنوان / الإهداء الطواف الفلسفي حول دائرة التساؤل الكوني ومشاركة القارئ العزف على أوتار الحياة بكلّ ما فيها من تحديات، فكانت ومضاتٍ عانَقَ فيها الفكرُ العاشقَ والمعشوق، وتمازجت فيها إيقاعات الوطن مع روحانية الإيمانيات.
نصوصٌ تُعصى على التصنيف
قد تختلط فيها حدود الأدبيّ بالفلسفيّ ويغدو من الصعب جداً تصنيف هذه النصوص وفقاً للمعايير التقليدية الخاصة بالفلسفة أو بالنقد الأدبيّ.
إنها بزعمي نوعٌ من الكتابة التي تُعصى على التصنيف، بل وتتمرّد عليه فهي تتمدّد برفعة واسترخاء على التخوم غير آبهةٍ بحُرَّاس الحدود وإيديولوجيا المتعصبين.
المسافة الفاصلة
هل سنشهد معركةً جديدة على تخوم المسافة الفاصلة بين الشك واليقين ضد الخطاب البلاغي في التصارع على ميدان الفلسفة ولكن كيف؟ وهل سينجح الخطاب الحديث من التسلُّل متنكراً إلى برج الفلسفة العاجيّ كحصان طروادة الذي دخل بواسطته الشعر إلى أرض الفلسفة المقصيّ منها.؟
هل يتغير اتجاه فتح بوابات الفلسفة ويصبح الداخل خارجاً والخارج داخلاً ؟
هل هي مناورة الحقيقة بين الفهم والوهم ومنهجيات قديمة جديدة في التعامل مع المستندات النصية والواقعات الاجتماعية والسياسية والإشكاليات الأنطولوجية والوجودية.؟
«يُسعفنا بالجواب هُناـ جاك دريدا ـ والذي يؤكِّد وجود ارتباط جذريّ بين الفلسفة والأدب، وهو ارتباطٌ جذريّ لأنهما يتغذيان من نفس الجذور، جذور الطفولة.»
وربما كان أرسطو أول من انتبه إلى هذه الطاقة الفلسفية الكامنة في طبيعة الشعر نفسها حين قال: «إن الشعر أكثر تفلسفاً من التاريخ وأهم لأن الشاعر يتعامل مع الكُلِّيَّات..»
مشروع الحلم
وفق هذا قدّم الكاتب «حافظ حسين»مشروعه الحلم، ومشاريعه الثقافية الإنسانية وأسانيده الفكرية والمنهجية والتنمويّة غير الرّبحيّة بصفته مؤسساً لهذه المبادرة، وهنا يمكن القول: قد حافظ على الخصلة الإنسانية الأكثر قيمة؛ للتدليل على إجرائية ونجاعة العقل التداولي والمنطق التحويلي والتوليدي ونقد الواقع، لا على إجرائية نقد العقل ومنطق المماهاة والمطابقة والعقل الإيديولوجي.
إذ كرّس الكاتب ذاته لتهذيب الجانب الروحي في الإنسان بوساطة توظيف جملة من الموضوعات التي تُفصِح عن تجربة روحية قوامها المجاهدة والمكابدة، وصراع الأهواء.
إذ يقول في نص «قطب الأكوان»:
الكون ذَرَّةٌ كبيرةْ
والذَّّّرةُ كونٌ صغيرْ
وحركةُ الأزمان فيه
مستديرةْ. ص-31
إذ يعد الكتاب تجربة إبداعية لا تخلو من جمال البساطة؛ ولعل أهمَّ مفتاح لسبر أغواره هو مفتاحُ الذات، الذات التي تبحث عن جوهر الحقيقة في كنه الوجود.
حيث يقول:
« صورٌ
أشكالها مجاميعُ فكر ٍ
من كتب فلسفية
تخاطب العقل
وتُحاكي الروح». ص- 54
اعتمد «حافظ حسين» على الأسلوب الشذري، والجملة الشذرية، والمقاطع المتشظية.
ومن ثم، فالأسلوب الشذري هو أسلوب الكتابة اللانسقية الذي يعتمد على المقطع أو الشذرة أو النص الطليق؛ ويعتمد على الإيحاء والإشارة ويهجر الفكر والمنطق وبالتالي، بدت الومضات كمقاطع تأملية، وخطرات صوفية، وانطباعات عقلية ونفسية في شكل خواطر روحيه، تعتمد على المسرود الذاتي، والخطاب غير المعروض، وتشغيل ضمير الحضور، واستدعاء الذات المتكلمة.
حيث يقول في محراب العشق : «زارني القمرُ المنيرُ
في مضجعي
في سماه
وأنا في موضعي
وصالُ المعشوق للعاشق رحمة
رَغْمِ المسافات
يهبني من طبعه نعمة
الروح تشهد إنّك القريب منها» ص-19
وتتمحور نصوص الكاتب تحت لافتة العشق والتمسك بصراع الذاكرة والخيبة مع الواقع والنفاق، ومواجهة العبث وجهاً لوجه بالتحديق في عينيه ومحذراً يقول:
جميلٌ أن تكونَ مضاءً بنوره
مستمدّاً قوّتكَ من عظمة حضوره
اقترب بالمعرفة إليه أكثر
فالجزء والكل منه
وبه يعبر
حذار حذار أيها العارف أن ترجع
بعد أن تسلك طريق العارف. ص- 36
جملة القول:
إذ لكلّ قراءة منطق لنفوذها داخل النص، ولكلّ قارئ استراتيجيته الخاصة وراء قراءته التي تسمح له بالاختيار والترحال والاغتراب، وفقاً لما يصبو إلى تحقيقه في لحظات الكشف والرؤيا.
لأن القراءة ليست مسحاً بصرياً للنص، ولا تفسيراً معجمياً لألفاظه، واستنباطاً لمعانيه المباشرة، فهي فعل خلَّاق كالإبداع نفسه.
وعلى هذا الأساس يعد الأدب رسالة فنية تختلف عن الرسائل اليومية، التي تتم وفق اللغة العادية.. وما تعرفه اللغة من ديناميكية في الزمان والمكان، هو ما يجعلنا نؤمن بأن متن (ومضات في سماء الحكمة) تجربة ذاتية لحافظ عبد الحميد حسين، تنقل انفعالاته ومشاعره ومواقفه إلى الآخرين، بالاعتماد على قوة المُضمر والتمثيل والإيحاء، ولذلك تتعدد الألفاظ والصور والأساليب بتعدد المواقف والانفعالات.
هذه الومضات بالرغم من بساطتها إذ تنتصر بالدعوة إلى الحكمة والتآخي والوحدة والتفاعل الحر، فيصبح العنوان متناً مركزياً والمتن الروحي عنواناً في سبيل الوصول إلى حالة من التوافق والانسجام، تجعل من الأنا والآخر صورة واحدة تصنع المستقبل وترسم صورة حية وناصعة للتآلف والتعايش والتفاهم وتقبّل الآخر في هذه الدائرة الوجودية.
العدد 1150 – 4-7-2023