الملحق الثقافي- نبيل فوزات نوفل:
للإجابة عن هذا السؤال،لابد من التأكيد على حقيقة الترابط العضوي بين الفكر والثقافة والأخلاق والقيم الإنسانية، فلقد أكد تاريخ البشرية هذه الحقيقة، فلا يختلف اثنان على أن الأخلاق هي سر تقدم الأمم ورقيها، مهما بلغت إمكانياتها من القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلا أن مؤشر الأخلاق هو الأقوى،وقد ذكر ابن خلدون «أن السلوك الأخلاقي المنحرف هو طريق الانهيار الحضاري، وأن رقي الأمم لا يتحقق بتوافر القوة المادية،أو رقي العقل، بل بتوافر الأخلاق الحسنة، وتاريخ البشرية خير شاهد على سقوط حضارات ودول نتيجة سوء أخلاقيات حكامها وشعوبها، ومن هنا نفهم الدور الذي تؤدّيه القيم الروحية بالنسبة للقوة المادية، فإذا كانت هذه الأخيرة ضرورية لحصول الغلب، فإن الأخلاق السياسية أكثر ضرورة، لأن بها يتم الحفاظ عليه، أي يتم الإبقاء على الاعتراف بسلطة الغالب والإخلاص في الإذعان لها»
ولقد بين المفكرون والمثقفون أهمية الأخلاق في تاريخ الحضارات الإنسانية وأكدوا أن للأخلاق دوراً مهماً في بناء المجتمع، بل هي حصنها المنيع وأساس تطور المجتمعات واستمرارها وقوتها وتتجلى هذه الأهمية من خلال الآتي:
1-تُبنى عليها جميع القوانين والأحكام، الأمر الذي يجعلها أساس صلاح المجتمع، والدرع الواقي من المسبّبات المؤدّية لانهياره، وتحويلها إلى مجتمعات تحكمها الشهوات أو الغرائز، وبالتالي سيادة قانون الغاب فيها.
2-أساس تكوين الأفراد المثاليين، وأسر سليمة، ومجتمعاتٍ راقية، ودولٍ متقدّمةٍ، وتلعب دوراً أساسياً في تهذيب المجتمعات، وإعدادها إعداداً فاضلاً، علماً أنّ الأخلاق المثالية هي العاصمة للمجتمعات من الانهيار والانحلال.
3- تصون المدنية والحضارات من الضياع، ما يجعلها المسبّب الأساسي لنهضة الأمم، وقوّتها.
4-تنمية الشعور الجماعي،وتنظيم العلاقات بين الأفراد، الأمر الذي يقوّي أواصر المجتمع، ويزيد من ألفته، ومن تعاونه، وتماسكه، وبالتالي قوّته.
5-تنمية الإرادة، ووضع حدود للشهوات، الأمر الذي يدفع الأشخاص لإشباعها بالطرق الصحيحة، وبالتالي كبح جماح النزوات.
6-إنشاء وحدة قيمية للأفراد،فهي الدستور المثالي الذي يتم تقييم الأفعال والتصرفات بناءً عليه، علماً أنّ كل ما يتفق مع التصرفات هو حسن ومحترم وخيّر، وكل ما يخالفها فهو شر ومحتقر وسيئ، الأمر الذي يوحّد هذه القيم لدى أفراد المجتمع.
7- لها أثرٌ كبيرٌ في تنمية سلوك الفرد والمجتمع، لما تزرعه في نفس صاحبها من الرحمة والصدق والعدل والأمانة والعفة والتعاون والتكافل والإخلاص والتواضع والألفة وغير ذلك من القيم الحميدة والأخلاق الفاضلة التي تدفع الفرد إلى اتخاذ مواقف إيجابية والمبادرة لتحقيق النفع الخاص والعام،لذلك فإن رابطة الاتحاد الاجتماعية تظل الركيزة الأساسية لتنمية المجتمع وترقيه إلى التمدّن الحضاري.
8- غاية من أسمى الغايات الإنسانية، ومن أعظم المقومات للحضارة الإنسانية، لا يمكن الاستغناء عنها لأي نوع من الأنواع البشرية، ولا لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، من أجل ذلك منذ أول وجود المجتمع الإنساني كانت المهمة الأخلاقية من أحسن المهمات لسائر الأديان والمذاهب.
9-إن مكارم الأخلاق هي تزكية النفس الإنسانية وتطهيرها بإدراك الفضائل وتمييزها عن الرذائل الملتبسة بها. وحمل النفس الإنسانية على التزام الآداب التي تقودها إلى عمل الصلاح والإصلاح، فهي عبارة عن مجموعة من العلائق بين المجال الحيوي حيث ينشأ ويتقوى هيكلها، وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها،فهي تقوم على تجربة مخططة منبثقة من الواقع الاجتماعي وخاضعة لمناهج علمية مستفادة من الدراسات والتجارب التي أجريت على هذا الواقع الإنساني.
وكما قلنا قوة الأخلاق من قوة الفكر والثقافة التي تنتجها، فاليوم وبعد التقدم الكبير في العلم وثورة التقانة والتقدم الهائل في علوم الذرة والبيولوجيا وعلم الوراثة والتقدم التكنولوجي والمعلوماتي الهائل نجد تراجعاً كبيراً في الأخلاق لدى معظم الشعوب الأوروبية،بدأ يهدد وجودها واستمرارها، وهذا يدل على ضعف وانحطاط الثقافة والفكر في هذه المجتمعات الذي بدأ ينتشر فيها وخاصة بعد إطلاق ثقافة العولمة والليبرالية المتوحشة التي تعزز الأنانية والفردية،وفي مقدمتها التحلل الخلقي الذى بدأ ينتشر بين الأفراد في هذه المجتمعات،مثل ما يسمى الآن المثلية الجنسية، وهو ما تدعو له اليوم بعض الجهات في المجتمعات الغربية خاصة وتشرع لهذا الفعل الخطير،فكما بدأنا اليوم نسمع ونقرأ عن انتشار المثلية في المجتمعات الأوروبية وأصبح لها مؤيدون، والسلطات تصدر قوانين تشرعن هذا الفعل المدمر للأخلاق والمخالف لكل القيم الإنسانية ما سيؤدي إلى تدمير ما بقي من أخلاق في هذه المجتمعات. ولقد بدأت أوروبا منذ زمن تعاني جملة من مظاهر الانحطاط الأخلاقي التي جاءت نتيجة انحطاط الفكر والثقافة منها:
1-تسخير منجزات العلم في مجالات مخالفة للقيم الأخلاقية، فعلى الرغم من التقدم العلمي والمادي الكبير الذي شهدته أوروبا،إلا أنها باتت في خطر الانهيار والتصدع الحضاري،لأن الإنجازات العلمية-التقنية يمكن من جهة أن تسخر لخدمة مصالح الإنسان وأن تساعده في رفع مستوى حياتهم المادية والروحية ومن جهة أخرى استخدامها ضد الإنسان،لإبادة ملايين البشر، وإلحاق الضرر بصحة الإنسان والسيطرة على حضارات الشعوب وتدمير ثقافتها وخاصة بعد اكتشاف الذرة وعلم الوراثة والأتمتة وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة،هذا إلى جانب فقدان الحرية والاستبداد والفقر والبطالة كلها عوامل تساعد على ضعف الأخلاق في المجتمع وتسهم في تعزيز الانحرافات عن الأخلاق الصحيحة.
2- إن السياسات الإمبريالية الاستعمارية وما بثته من الأنانية، والخلاص الفردي والجشع والاستغلال، وانتهاج سياسة الغاية تبرر الوسيلة، جسدت والتباعد وضعف الروابط بين أبناء المجتمع،إلى جانب تعاطي الفواحش والرذائل والمحرمات والدعوة إليها والانسلاخ من القيم والمبادئ الأخلاقية وفعل كل ما هو مناف للآداب العامة من أسباب انهيار المجتمع وسقوطه، فالأمم لا تسقط بسبب انهيار اقتصادها أو قوتها العسكرية فحسب،بل بسبب التدهور الأخلاقي وانتشار الفساد الذي هو أهم نتائج الانحطاط الأخلاقي.فكما نعلم إن أخلاق الناس ترتبط بأخلاق السلطة المهيمنة عليهم، وبقدر ما تتغير السلطة وتتغير سياستها تتغير أخلاق الناس، وهناك أمثلة في غاية الوضوح يعني ألمانيا مثلاً، الشعب الألماني انقسم إلى ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، في هذه السنوات العقود التي فصل فيها الألمان أنفسهم إلى شرقيين وغربيين الطبائع والأخلاق والسلوك المسيطر على هؤلاء كان مخالفاً تماماً للطبائع والأخلاق والسلوك المسيطر على هؤلاء، وهم شعب واحد، كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية كلاهما شعب واحد، لكن هيمن على هذا نظام وهيمن على هذا نظام، فهذا الشعب صارت له طبائع وسلوك وأخلاقيات وتقاليد تنافي وتناقض وتختلف عن طبائع وسلوك وأخلاقيات هذا الشعب الآخر؛ فهنا ابن خلدون يلفت النظر إلى أن الأخلاق أخلاق الشعوب تتكون بفعل سياسة السلطة المهيمنة على الناس.
3- انتشار الفكر الليبرالي المتوحش والأخلاق البورجوازية،التي رسخت النفعية ونظريات الأنانية التي جوهرها أن الإنسان يؤثر عند اختياره لنهجه في السلوك مصالحه الخاصة على مصالح المجتمع والناس، وهذا ما أوصل المجتمعات الغربية إلى أزمة عميقة، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية والدول السائرة في فلكها.فبالرغم من قوة وغطرسة أميركا فإنها تحمل بذور فنائها وتدهورها، فأخذت تسود نظرة أن أميركا تتطور من البربرية إلى الانحلال دون ملامسة الحضارة. وهذا ما بدأ يصرح به بعض الكتاب المرموقين والباحثين السياسيين في أميركا الذين تصدوا وعروا السياسة الأميركية المتوحشة،مثل (بول فندلي) في عدة كتب منها «لا سكوت بعد اليوم»، ويأتي المفكر الأميركي (بول كندي) ليقول «أميركا دولة استعمارية»،وقد صدر له كتاب بعنوان»صعود وسقوط القوى العظمى» الذي صدر عام1988م وله كتاب آخر هو «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» وآخر أعماله»برلمان الإنسان»، ويؤكد (بول كيندي) أميركا تمر بحالة خطيرة من التوسع الاستعماري»، كما أكد (بريجنسكي) في كتابه «الفوضى» عدم إمكانية أميركا القيام بدور الشرطي أو المصرفي للعالم ولا حتى الأخلاقي الكوني، ولعل كتاب موت الغرب للكاتب الأميركي / باتريك جبيه بوكان/،وهو سياسي ومفكر أميركي معروف، يبشر بموت وانتهاء الغرب، ونوجز ما جاء في هذا الكتاب فنرى أن المؤلف في هذا الكتاب ينبه إلى» أن الموت الذي يلوح في أفق الغرب هو في الواقع موتان،موت أخلاقي بسبب السقوط الأخلاقي الذي ألغى كل القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية، وموت ديمغرافي وبيولوجي (النقص السكاني بالموت الطبيعي)،ويقول الكاتب:»إن الموت المقبل مريع ومخيف، لأنه وباء ومرض من صنع أيدينا ومن صناعة أفكارنا، وليس بسبب خارجي، ما يجعل هذا الموت أسوأ بكثير من الوباء الأسود الذي قتل ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر،فالوباء الجديد لا يقتل إلا الشباب، مما يحول الغرب عموماً وأوروبا بشكل خاص إلى «قارة للعجائزٔ» وبعد تقديمه إحصاءات عن حالات التدهور الأخلاقي والاقتصادي يخلص المؤلف للقول:»إن هذه هي إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تحتضر وتموت، وإن بلداً مثل هذا لا يمكن أن يكون حراً، فلا وجود للحرية دون فضيلة ولا وجود للفضيلة بغياب الإيمان. ويبين الكاتب(بنيامين باير) في كتابه «امبراطورية الخوف» خطر السياسات الأحادية لواشنطن، ويمكننا تلخيص فكرة الكتاب بالآتي:»إن العمل المنفرد والحرب الوقائية وتغيير أنظمة الحكم بالقوة العسكرية أطاحت بالقانون، وبذلك أصبح موقفها ضعيفاً في محاربة الإرهاب، وإن تعميق الخوف في نفوس الأميركيين جعل أميركا إمبراطورية الخوف، ويجعلها تلجأ إلى إدارة العالم بالسلاح والفتن، ويؤسس بنيامين باير نظريته في أن مستقبل الامبراطورية الأميركية لا يشير إلى أنها تعيش طويلاً على أنها لا تلتزم بالقانون والعدالة ولا تعترف بحقوق جميع الدول والشعوب وتؤمن بالهيمنة)» ويرى الكاتب(مارتن جاك) مؤلف كتاب عندما تحكم الصين العالم «أن العالم سيتغير في المجالات المختلفة اقتصادياً وثقافياً، وأن عملة الصين ستحل محل الدولار، وستكون المعالم التاريخية في الصين مألوفة لدى العالم كله.ويلعب الحلف الروسي الصيني الإيراني الكوري الشمالي دوراً كبيراً في ولادة عالم متعدد الأقطاب، واقتلاع أنياب الشيطان الأميركي الرأسمالي الذي تقوده التلمودية العالمية،ما سيؤدي إلى ولادة العالم الجديد الذي بدات معلمه ترتسم بقوة اليوم،وبات العالم في مواجهة حقيقية مع الفكر الإمبريالي الاستعماري والثقافة التي تقوم على الهيمنة وعلى السياسة المجردة من الأخلاق، ومما سبق، يمكننا القول إن الثقافة والفكر الغربي في حالة تراجع واندحار. ولقد صدق الشاعر أحمد شوقي حين قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
العدد 1150 – 4-7-2023