الملحق الثقافي- أيمن المراد:
الغزو الثقافي أن تقوم مجموعة سياسية أو اقتصادية بالهجوم على الأُسس والمقومات الثقافية لأمة من الأمم، بقصد تحقيق مآربها، ووضع تلك الأمة في إطار تبعيتها. وفي سياق هذا الغزو تعمد المجموعة الغازية إلى أن تُحِلَّ في ذلك البلد وبالقسر، معتقدات وثقافة جديدة، مكان الثقافة والمعتقدات الوطنية لتلك الأمة.
ومن أخطر وسائل الغزو الإعلام والدعاية والتواصل وهي أشدها تأثيراً، إذ تبقى الدول الغربية (أميركا، بريطانيا،فرنسا ومعها إسرائيل) ودوائرها المتخصصة وامتداداتها المحلية في حالة استنفار وهجوم وغزو منظم ودائم ضد المستهدف في مخططها، وتعمد إلى تسخير أحدث التقنيات العلمية لتحقيق أهدافها، وصولاً إلى الهدف الثقافي المركزي، والمتمثل بفرض هيمنته الثقافية عالمياً أو عولمة ثقافته، اعتماداً على ما يسمى انعدام المسافات الجغرافية بين الدول والشعوب، في أعقاب التطور التكنولوجي الهائل الذي جعل العالم قرية واحدة حاضراً، وبيتاً صغيراً مستقبلاً.
الغزو الثقافي يقوم على ركنين اثنين:
الركن الأول: يتمثل في استبدال الثقافة المحلية (الثقافة الوطنية الخاصة) بالثقافة الأجنبية. وهذه الممارسة هي في واقعها استمرار لتلك السياسة الاستعمارية، وكان يُروَّجُ لها بشكل كبير، وتشيع على نطاق واسع من دون أن يكون ثمة حاجز أو رادع.
الركن الثاني: ويتمثل في الهجوم الثقافي بوسائل مختلفة، فاستغلال السينما والمطبوعات، وحتى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التي تملكها الدولة، وجهدوا أن يكون لهم حضورهم في كلّ جزء من المجال الثقافي، وأن يكون منهم ممثل في كلّ نشاط ووجود ثقافي. فتحركوا أولاً بلباس النشاط الثقافي المحض، ولكنهم عادوا الآن ليخوضوا في المسائل السياسية واستخدام ما يسمى القوة الناعمة، والتي تعني أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية، من خلال بث أفكار ومبادئ وأخلاق مدعومة من مراكز بحثية وتحت عباءة ما يسمى حقوق الإنسان، والبعثات الأثرية، واللجوء إلى المساعدات الإنسانية التي تهدف ظاهرياً إخراج المناطق المتضررة من أزماتها ..
يجب أن يعرف هذه الحقيقة، ويدرك مغزاها الكتّاب الصحفيون والمؤسسات الثقافية من قبيل الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسات الإعلام المختلفة، والتربية والتعليم والجهات الأُخرى!
وهذا ما يبعث على القلق.على سبيل المثال يمكن أن تتجلى قضية الغزو الثقافي في سلوك فئة الشباب، وهي الفئة المستهدفة بشكل أساسي يظهر ذلك باللباس والقمصان التي تحمل عبارات لا تناسب البيئة الاجتماعية والأخلاقية لمجتمعاتنا، وفي كثير من الأحيان دون معرفة الشباب للعبارات ومعناها، وهي تنطوي على أبعاد أعمق، إذ هي تكشف في حقيقتها عن وجود جبهة واسعة، يوظّف فيها الوسائل المؤثرة، الخطيرة والفاعلة، ويستفيد من العلم والتقنيّة لترويج ذلك.
إذا لم نتحرك بذكاء في مواجهة موجات هذا الغزو، بحيث نوظّف له الوسائل الصحيحة الناجحة، ونعتمد الحكمة والتدبير، فإنَّ آثاره ستكون خطيرة جداً ومدمِّرة.
علينا أن نتعاطى مع هذه القضية، وأن نتجنب إعمال الأذواق والأمزجة الخاصة.
فالغزو الثقافي، هو تعبير عن قضية واقعية واضحة، لا يسعنا أن نقضي على وجودها عملياً بمجرد إنكارها. وهو واقع قائم وموجود، في الجامعة وخارج الجامعة، بل حتى في وسائلنا الإعلامية وأجهزة الاتصال العامة التي تختص بنا. كما لا يسعنا أن ننكر ما هو موجود في ثنايا الكتب التي تؤلف، وتلك التي تُترجم.. وفي الشعر الذي ينظم ويلقى.. وفي البرامج الثقافية العالمية.. التي تبدو في الظاهر وكأنّها لا صلة لها بنا.
قبل مئة عام كان هُناك غزو ثقافي ضد العالم العربي والإسلامي، ولكن ليس على الشاكلة التي هوعليها الآن، كان العالمُ الإسلامي يومذاك يغطّ في سبات عميق، ويعيش حالة خدر بل كان غائباً عن الوعي. لذلك كان العدو يكتفي آنذاك بضربات يوجهها إلى الجسم الإسلامي في بعض الأحيان، وينتهي كلّ شيء. أمّا اليوم فإنَّ الإسلام- وهو العدو الرئيس للغرب- أضحى يقظاً..
والآن تعمل هذه البلدان (العربية والإسلامية) على النهوض والتخلص من الاستعمار بكل ألوانه ويجب الحذر دائماً من الغرب ونظرته لنا لأنه مخزن لا ضير من تلقي ثقافة الآخرين، ولكن على نحوٍ يتم فيه التمييز والاصطفاء، لو
عثرنا في معارف الغرب على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء، إذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال- مع منتجات ثقافة الغرب- إذ علينا أن نتعامل معها تعامل الجسم السليم الحي.. نأخذ مايفيدنا ونلفظ ما لا ينفعنا.
في ضوء ذلك، لا يصح أن نتعامل مع ثقافة الآخر، تعامل الإنسان الفارغ، الخالي من أي شيء.. الفاقد لكل خلفية، كما لا يصح أن نتعامل معها تعامل الإنسان الحائر.
ما هو حاصل الآن أن موج الثقافة الغربية يغزونا وينفذ في وجودنا من خلال الراديو والتلفزيون وكتب الموضة والموديلات والمجلات، ومن خلال البرامج الدعائية والصخب الإعلامي.
وإذا انفتح مجتمع ما على المعارف، فستزداد مناعته في مقابل الآخر. وإذا كان للمجتمع رغبة وولع في العلم، فسيبادر حين يتواصل مع البلاد والمجتمعات الأخرى،لكسب العلم وأخذه منها.
التعليم والتعلم أمران ضروريان.. وعلى الجميع أن يتعلّم.. فحين نعود إلى الإسلام في الحديث المشهور»اطلبوا العلم ولو في الصين»، نجد أنه لم يكن ما هو أبعد منها،ما يريدونه لما يطلق عليه بالعالم الثالث، وما يخططون له، هو التبعية الثقافية والسياسية. لقد رتبوا الأمور على نحو لا يتم فيه تبادل العلم والتقنيَّة.
ويمكن أن ندرج معضلة فرار العقول وهجرة الأدمغة، وهي مسألة ملحة يعاني منها العالم الثالث..
فهم يخطفون أفضل الطاقات والعقول التي تتحلّى بها بلادنا، ولم يسمحوا- في إطار إبقاء حالة التخلّف وترسيخ التبعية- للطاقات المستعدّة التي تلقت تعليمها في العالم الثالث نفسه، أن تعود إلى بلادها للاستثمار فيها عملياً وعلمياً.
بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي:
هناك فارق بينهما فالتفاعل الثقافي يعبر عن ضرورة تحتاج إليها الشعوب. فليس ثمة شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن الإفادة من معارف الشعوب الأخرى..
لقد تعلم مجتمعنا أشياء كثيرة طوال تأريخه من الأمم الأخرى. وحالة التفاعل هذه تعدّ أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقى الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحيوية والتجدّد.هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الإيجابي والمطلوب. الهدف من التبادل الثقافي هو إثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها.
على سبيل المثال لا شك أنّ الكثير منا يتعاطى بعفوية مع مطالب حقوق الإنسان، ولا شك أن البشرية قد حققت قدراً كبيراً من الكرامة والأنسنة من خلال مجهودات وتضحيات نشطاء حقوق الإنسان، إن التسليم لحقوق الإنسان على أنها استجابة طبيعية للفطرة الإنسانية والحتمية الطبيعية فيه الكثير من المغالطات، فما يبدو اليوم طبيعياً قد يتغيّر بعد فترة بسبب ظروف اجتماعية مختلفة.
فالرجل لا يولد رجلاً، بل يولد مولوداً يقوم المجتمع بصياغته كرجل، والمرأة لا تولد امرأة بل يقوم المجتمع بتنشئتها لتصبح امرأة، وبذلك الرجولة والأنوثة منتوجان اجتماعيان، تختلف متطلباتهما من مجتمع لآخر. كما أنّ الأدوار الوظيفية المنوطة بكل منهما تتميّز بحسب طبيعة المجتمع وثقافته.
وكلّما تعدّدت وتنوّعت مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تسهم في بناء الفرد وتكوينه،تنوّعت سلوكياته وتباينت لدرجة التناقض أحياناً، وخاصة في المجتمعات الحديثة التي باتت تعاني من الانعزال التي تهدد المجتمعات،من هنا يصبح من حقّنا مساءلة سعي المجتمعات الغربية لفرض تعميم أحكام أخلاقية وليدة سياقاتها الاجتماعية المادية والتاريخية، والتي تعبّر عن ثقافتها الخاصة على كل المجتمعات، على حين أن البشرية تزخر بثقافات متنوعة وليدة كل مجتمع وتجاربه الخاصة.
لذلك يجب أن نخضع منظومة حقوق الإنسان للمساءلة نفسها، لأنها – جزئياً – ما هي إلّا منتوج لمجتمعات غربية تستغل تفوّقها المادي لفرض مفاهيمها الخاصة، فكما أن التاريخ يكتبه المنتصر، فالقيم الكونية في الأغلب ما هي إلّا تعبير عن هيمنة وسيطرة المجتمعات المتغلّبة. والمطلوب ليس رفض كل ما يأتينا من الغرب من قيم وأفكار تمثّل تصوراً للكون ونظماً معيشية للتكيّف معه بما في ذلك المصلحة العامة للبشرية ومواجهة الأخطار والتهديدات القائمة والمحتملة، وإنما مناقشتها وعرضها على المصلحة العامة لمجتمعاتنا، كي لا تصطدم مع قيمنا وثقافاتنا. وكمثال على ذلك، اجتهدت المجتمعات والنظم الغربية منذ عقود من الزمن في المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة، بعدما كانت لا تعتبرها إنساناً كاملاً، إلا أنّ المطالبة لم تتوقف، بل تطّور الأمر حتى صارت تطالب بفصل الإنجاب عن الأمومة، فكيف يمكننا التعامل مع مثل هذه الأفكار الهدامة؟
يهدف الغزو الثقافي سلخ الجيل الجديد عن معتقداته بضروبها المختلفة. فهو من ناحية يسعى إلى قناعة هذا الجيل بمعتقده الديني، ويقطعه من ناحية ثانية عن الاعتقاد بالأصول الراسخة لديه، ويهدف من ناحية ثالثة إلى قلعه عن هذا الطراز من الفكر الفعّال الذي يدفع لاستشعار حالة الخوف والخطر.
وعلينا أن نتعاطى مع مسألة الغزو الثقافي بجد، وبوصفها مسألة حقيقية، وأمراً واقعاً. فالمعركة الثقافية ضدَّ الفكر، هي مسألة تنطوي على فروع وشُعب مُتعدِّدة.
وإذا شاء الإنسان البحث فيها، فسيجد أنها مفتوحة على مجال واسع جداً.
ثمة أشكال لحركة المواجهة، تتمثل هذه المرَّة بإثارة علامات الاستفهام حيال المسائل الأساسية، والردّ عليها بشكل أكثر وعياً؟
العدد 1151 – 11-7-2023