حكمت العلاقات الدولية عوامل ومؤثرات واقعية على مدى التاريخ ، تمثّلت في مدى وشكل وطبيعة المقدرات العسكرية والاقتصادية التي تمتلكها كلّ دولة كمحصلة شاملة ونهائية قادرة على التأثير في علاقاتها الخارجية ومحددة لها ، ولعبت تلك العوامل في التأثير على رسم معالم تلك السياسات ، ففي روما القديمة دفعت المقدرات العسكرية إدارة الدولة للقيام بمغامرات عسكرية لم تقف عند حدود روما ولم تقتصر على حدود القارة الأوروبية ، وهي تجاوزتها إلى عمق آسيا وأفريقيا في وقت لم تكن فيه وسائل النقل قادرة على تأمين انتقال الأعداد المتزايدة للجنود اللازمين لدخول أتون المعركة.
وقبلها في أثينا القديمة بدأ فيليبوس الكبير توحيد الممالك الإغريقية تحت سلطته فاتحاً الطريق لابنه من بعده ليبدأ مغامرته الكبرى في الوصول خلال فترة قصيرة إلى حدود الصين وبناء امبراطورية واسعة انتصرت على بلاد فارس وضمتها إلى سيطرتها ، لم تسعف الأقدار بانيها لينعم بحكمها وجني نتائج توسعه ، فقد قضى الإسكندر المقدوني الأكبر شاباً ولم يتجاوز الثالثة والثلاثين لتنقسم إمبراطوريته إلى ممالك صغيرة بانتظار المدّ الروماني القادم بتلك العربات الكثيرة لمتابعة بناء النظام الامبراطوري الأكثر حضوراً في التاريخ البشري ، وتعود لمواجهته امبراطورية فارس بحكمتها وإدارتها وطبيعتها الشرقية ، بانتظار المدّ العربي الإسلامي القادم برسالة وعقيدة فقط دون الارتكاز على قوة عسكرية أو اقتصادية كبيرة فيقضي على إمبراطوريتين كبيرتين في وقت واحد ويصهر نتاجهما في بناء مشروعه الصاعد .
أما المشروع الأميركي الذي ورث عروش إمبراطوريات استعمارية كبيرة فإنه تابع أساليبها وزاد عليها نشر قواته في البحار والمحيطات مزوداً إياها بترسانة عسكرية كبيرة قوامها الصواريخ والطائرات بحيث تصبح قواتها على تماس مباشر مع منطقة العمليات المسلحة في حال وقوعها وبذلك ضمنت ضمن تحالفاتها وجود جيوش رديفة من بقايا الامبراطوريات الاستعمارية السابقة لتكون المخرجات السياسية متوافقة مع هذه القوة الطاغية التي جوبهت من الاتحاد السوفيتي سابقاً في إطار سياسة الحرب الباردة ، لكنّها اليوم تدخل مرحلة السياسة متعددة الأقطاب لعالم يتشكل فيه النظام العالمي الجديد وفق إرادات اعتراضية مواجهة تسعى لإقرار هذا النظام الجديد بعيداً عن المواجهات الدموية ، مقابل تمسك أميركي بوهم جيوسياسي عاشته واشنطن إثر تفكك الاتحاد السوفييتي وسيادة نظرية نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية واعتبارها الحل الوحيد لمشكلات العالم كله ، وفق الخريطة المنتجة في دوائر واشنطن وملحقاتها.
حال التوتر العالمي نتيجة متوقعة لاختلاف المصالح واختلاف السياسات واختلاف تقدير حجم القوة والمقدرات بانتظار ابتكار طريقة مواجهة جديدة تنتج عالماً جديداً يفرض علاقاته على السياسة الدولية لفترة قادمة .