يبدو أن عالم اليوم وعلاقاته تختلف عما كانت عليه الأمور قبل ذلك، فمع استمرار الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا والحرب الصامتة بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأميركية في جنوب شرق آسيا وتايوان أصبحت الكثير من دول العالم ولاسيما بلدان ما سمي العالم الثالث تتحرر رويداً رويداً من شبكة علاقات تربطها مع محور بعينة أو دولة بعينها، ولعل ما شهدته قمة بريكس الأخيرة التي عقدت في جنوب أفريقيا هي خير شاهد على ذلك بدليل أن دولاً وازنة ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الغرب على كل المستويات بدأت ترغب الدخول في مجموعة وتكتل بريكس بكل عناوينه الاقتصادية والمالية وربما العسكرية مستقبلاً، ولم تمنعها علاقاتها وتشابكاتها مع الغرب من القيام بذلك ما يعني أن تلك الدول بدأت تنتهج سياسات يمكن وصفها بتعدد الانحياز أي إنها ترتبط بل وتتشارك مع قطبين متصارعين أو على الأقل متنافسين ومختلفين إيديولوجياً، وهما أميركا والصين يضاف إليهما روسيا الاتحادية، وإلى جانب تعدد الانحياز يمكننا الحديث عن المرونة الاستراتيجية في العلاقات بين الدول، فعلى سبيل المثال ثمة خلافات بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الهند، ومع ذلك نجد كلتا الدولتين عضوين أساسيين في مجموعة بريكس وللهند علاقات ذات طابع استراتيجي مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية في الوقت ذاته، ومثال آخر على المرونة الاستراتيجية في علاقات الدول وهو المملكة العربية السعودية التي رشحت لتكون عضواً في بريكس وحضرت اجتماعاتها وستنخرط في حيثياتها الاقتصادية وغيرها، فهي في ذات الوقت ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية في حين ينظر الأميركيون أن بريكس هو تكتل عالمي في مواجهة النفوذ الاقتصادي والمالي للولايات المتحدة الأميركية ويسعى للخروج من هيمنة الدولار الأميركي بالتعامل مع سلة عملات خاصة به والحديث عن بنك دولي تقيمه تلك الدول في منافسة أو مشابه لصندوق النقد الدولي أو بديلاً له، وما يمثله ذلك من تحد حقيقي للنظام النقدي العالمي ومنذ اتفاقية بروتن وودز عام 1944 حتى الآن.
إن الحديث عن نظام عالمي جديد يحل بديلاً من النظام العالمي الحالي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وبسيادة غربية خالصة لا يمكن أن يحصل إن لم يحدث تغيير حقيقي في النظام الاقتصادي والمالي العالمي، وتنتهي هيمنة الدولار الأميركي ونظام سويفت على السوق العالمية ونظام التبادل، من هنا لابد من مأسسة هذا التجمع في ظل حديث عن إنشاء بنك مشابه أو منافس لصندوق النقد الدولي كما أشرنا وثمة تلميحات إلى تحوله إلى تحالف سياسي وربما عسكري في المستقبل، والأهم من ذلك توسع عدد أعضائه، فتجمع بريكس نشأ قبل حوالي 23 عاماً وكانت نواته أربع دول وسمي بريك ثم بريكس بعد انضمام جنوب إفريقيا إليه، حيث التسمية هي الحروف الأولى للدول المؤسسة له هي جمهورية الصين الشعبية والهند وروسيا الاتحادية والبرازيل وجنوب أفريقيا، ونظراً لأهميته والرهان عليه طلبت 23 دولة الانضمام إليه في قمته الأخيرة في جنوب إفريقيا رحب بعضوية ست دول منها ثلاث دول عربية هي مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إضافة للجمهورية الإسلامية الإيرانية وإثيوبيا والأرجنتين.
إن تجمع بريكس اسم له رائحة سياسية واستراتيجية، وسيشكل حقيقة الإرهاصات الأولى لنظام دولي جديد تطمح إليه دول العالم وشعوبه للتحرر من السطوة الغربية على المشهد العالمي، ولعل ما يجري في أوكرانيا وما تشهده الدول الإفريقية من انتفاضة بوجه المستعمر الفرنسي مع تراجع حمى الاستعمار وتقلص النفوذ الأميركي في دول العالم وعودة الروح والوعي لشعوب العالم كل ذلك يشير إلى أن المشهد العالمي يتحرك باتجاه القطبية المتعددة وأن منطقتنا العربية وغرب آسيا ستكون إن فكرت وعملت بشكل صحيح هي القطب المنتظر من بين أقطاب جديدة بدل أن نراهن على أقطاب أخرى خارج دائرتنا التاريخية.