الملحق الثقافي- حسين صقر:
بين الانتقال من حالة قديمة إلى أخرى جديدة، تتصارع الأجيال بين مفهومي الحداثة أو العصرنة والحفاظ على التراث.
فالمغالون مثلاً والمؤيدون للعصرنة يقصدون ترك التراث، ويدعون لعدم العيش على أمجاده، والمتمسكون بالتراث والمتشددون اتجاهه، يهدفون للإبقاء عليه والبقاء في روحه.
يتناسى هؤلاء ونتيجة الانحياز الأعمى لكل عصر أن الحداثة تشمل وجود تغيير ما في التاريخ، وتجديد ما هو قديم في المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية لتوضيح مرحلة معينة، والتراث يعني مجموع نتاج الحضارات السابقة التي يتم وراثتها من السلف إلى الخلف وهي نتاج تجارب الإنسان ورغباته، وأحاسيسه سواء أكانت في ميادين العلم أم الفكر أم اللغة أم الأدب وليس ذلك فقط بل يمتد ليشمل جميع النواحي المادية والوجدانية للمجتمع من فلسفة ودين وفن وعمران وتراث فلكلوري واقتصادي أيضاً، ولذلك يجب الاعتدال والمقاربة بين المفهومين، لأنه لايمكن لأحدهما أن يستقيم دون الآخر، ولذلك لابد من تأصيل الحداثة، والحفاظ على التراث، وبذلك لايذوّب الماضي الحاضر، ولا الحاضر يقضي على المستقبل.
فالتراث يعكس المستوى الحضاري للشعوب، وهو ما يفرض ضرورة الحفاظ عليه وتطويره بما يتناسب وضرورة المرحلة المراهنة، ولاسيما أن الأحكام والمواقف تتغير باختلاف الزمان والمكان والظروف، بمعنى أن ما يكون صالحاً لزمان ومكان معينين، لا يصلح لغيرهما من سنوات لاحقة.
وعليه يشمل التراث كل ما خلفته الأجيال السابقة في مختلف الميادين، من روايات شفوية وحكايات وفنون غنائية، وتراث مكتوب كالوثائق والمخطوطات، إضافة إلى التراث المبني كالآثار والبناءات والزخارف والنقوش، وهناك أنواع أخرى كأدوات الزينة والحلي والملابس وغيرها.
ولهذا تقع المسؤولية على الجيل اللاحق في الحفاظ على هذا التراث وتطويره وترسيخ قيمه، في الوقت الذي تستقبل فيه الحداثة بشكل منظم ومدروس، وأن تأخذ كل ماهو مفيد وتجاوز الأفكار والتقنيات الدخيلة التي تضر بأخلاقيات المجتمع وتقوض بناءه الفكري والاجتماعي، وذلك بالتعاون مع الأهل والجهات المعنية في ذلك، ومن خلال برامج التوعية الهادفة، وذلك بما يسهم بتحفيز الحياة الثقافية، وتشجيع الإبداع والفكر والمحافظة على أصالته مع العمل على مواكبته لمتطلبات العصر.
فمشروع الحداثة يتأتّى من مسوغ جملة التحولات الكبرى التي واكبت تجربتها، ونقلتها من كونها بديهية أو حقيقة يقينية إلى مشكلة وعائق أمام الأجيال، لتتحول فيما بعد إلى مشكلة حقيقية تسبب بانهيار كثير من الأسر والمجتمعات.
إن قيمة الإنسان و العالم الثقافي بما يحتويه من فنون وأخلاق ونظم اجتماعية وسياسية، لا تكتمل دون النظر إلى كليتها، وليس إلى الزوايا الخاصة فيها، وإلا فلن يحافظ كل هذا التوهّج على بريقه، ويبقى كل ما يقال مجرد عبارات دون معنى.
بعيداً عن فلسفات التّشاؤم والمأساوية، لابد أن يستفيق العقل ويستقيم الضمير، ويحدثان ثورتهما على الكوارث الأيديولوجية الدخيلة، وبذلك تطفو كنوز القداسة ومنابع المعنى والقيم، و وتخضع كل الملكات للأوامر الأخلاقية ذات الجذر الروحي.
العدد 1158 – 5-9-2023