شقاوة.. وحلوى

محمد شريف جيوسي 
كان الطريق الساحلي بين مدينتيْ قلقيلية وطولكرم الفلسطينيتين ما زال سالكا وآمنا ، والمسافة بين المدينتين عبره يسيرة لا صعود فيها ولا منعرجات خطرة ، قبل ضم منطقة المثلث للمستعمرة الإسرائيلية في نطاق ألاعيب السياسة والخيانة ، كما كان الانتقال عليه بواسطة الدواب شائعاً .
وفيما كنت أركب خلف والدي الشيخ حماراً ابيضاً قبرصياً ، يكاد يكون حصانا لجماله وضخامته متوجهين الى طولكرم ، وإذا بسيارة يستقلها أشخاص من جيايسة كور .. تتجاوزنا لأمتار .. ثم يهبط منها أحدهم عارضا على الوالد أن استقل معهم السيارة الى المدينة تخفيفا علينا ، وافق السيد الوالد وذهبت معهم حيث بيتهم الأنيق لا يبعد كثيرا عن دكان والدي .
لكنني كطفل شعرت بنوع من الملل ولم أنتظر وصول الوالد ، فتوجهت الى دكانه ، لأجد هناك رجلا (يتسبب) بوضع سدر حلويات على رافعة مثلثة الأقدام ودائرية في الأعلى .. فقمت دون تفكير بقلب سدر الحلويات منزعجا من وقوفه أمام دكان الوالد ، أدمعت عينا الرجل دون ردة فعل تجاهي وبقي واقفا في المكان.. شعرت بشيء من الارتباك ، لكن ما حدث قد حدث ، فصمتّ بشيء من الخجل .
بعودة الوالد ، شكا الرجل له من تصرفي ، وبالكاد كانت قد جفّت دموعه ، فقد كان قوت اسرته ذلك اليوم ، وكانت أحوال مهجّري الساحل الفلسطيني قد ساءت كثيراً ، لكن أوضاع الوالد لم تكن قد ساءت بعد ، فنقده ثمن الحلويات التي تسببتُ بسقوطها ، وذهب الرجل في حال سبيله شاكرا وداعيا أن يحفظني الله إبنا باراً لوالديْ ، فقد وفّرت عليه ساعات إنتظار طويل لبيع كامل السدر ، وربما إشتغل سدراً آخر فيما بقى من نهار مازال في أوله .
وفي ذات نهار كانت سيدة ريفية تتحادث مع الوالد وهي جالسة على الرصيف أمام الدكان ، وتقوم فيما يظهر بتنقية نوع من الحبوب وأمامها غربال ، لكنني شعرت بادراك طفولي ربما مبكر ، أن حالة تناغم حاصلة بينها وبين الوالد وأن التنقية ذريعة لجلوسها بالمكان والتحدث معه  ، فحاولت قسرها على المغادرة .. لكن الوالد تدخل وهدّأ من روعي ، أنْ عيب يابا ، حرامْ ؛ فهدأت ، لكن دون اقتناع .
بعد انتزاع منطقة المثلث الفلسطينية وضمه للمستعمرة الإسرائيلية في نطاق لعبة سياسية كبرى ، وازدياد أعداد المهجّرين الفلسطينيين من المدن والبلدات والقرى التي أصبحت تحت الاحتلال الإسرائيلي أيضاً ، بدأت الأحوال الإقتصادية تسوء وتوقفت عجلة الإقتصاد والتجارة وتراجعت القدرة الشرائية لمن لديهم نقود وكثرت السرقات ، وكانت دكاننا تُسرق أغلب الأيام ، ما اضطرنا إلى الإغلاق ، والاستعانة بدكان الساعاتي متري لتصريف ما تبقى من بضاعة من خلاله .
في الأسابيع الأولى للهجرة سكنا في ظروف غاية بالسوء في كراج للحافلات المتوقفة عن العمل لإنسداد خطوطها الممتدة الى داخل المدن الفلسطينية التي أحتلت من قبل المستعمرة الإسرائيلية..
لا أدر كيف خطر ببالنا أنا وشقيقي محمود الذي يصغرني بسنتين ، عندما سكنا في منزل لائق أول طولكرم من جهة الطريق المؤدية الى نابلس ، وأمامه شجرة جميز عظيمة .. أن نجرّ كراسي خيزران جميلة لها مقاعد من قش مثقب ، وننادي زركا .. عمان .. زركا عمان .  كأنما كنا بذلك نؤكد المقولة الشعبية ( خذوا فالهم من أطفالهم ) لما سيحدث فعلاً بعد سنتين أو 3 سنوات .
رفض والدي السكن في مخيم للاجئين أقيم شرق طولكرم ، وانتقلنا لسبب ربما يتعلق بقيمة أجرة البيت ـ الى آخر في الحارة الشرقية قرب مقر القائمقامية ، وذات نهار في العطلة الصيفية ، سمعنا صوت إنفجار ، وظننا أن المستعمرة تهاجم طولكرم فتجهزت والدتي وزوجة والدي وشقيقاتي وبينهن من لم تبلغ اشهرا بعد للمغادرة دون ادراك محدد للوجهة التي سنتوجه إليها ، وخرجتُ كطفل فضولي من باب البيت مستطلعا فرأيت عربة عسكرية يمتطيها جنديان أو شرطيان وعليها رشاش يخرج من مقر القائمقامية يتجه غرباً .. فيما كان زامور الخطر يزعق .
لم يطل الأمر طويلا ليتبين ، ولا أدر كيف تبين ذلك ، أن أطفالا في بناية طابقية على ندرتها وقتذاك ، كان بينهم طفل سمين من زملائي في الصف الأول إبتدائي ، كانوا يلهون بجسم صغير غريب ظنا منهم أنه علبة كاكاو أو شوكولا ، فإذا هو قنبلة تنفجر بهم وتقضي على حياتهم ، كنا على يقين أن جماعة من العصابات الإسرائيلية سربت القنبلة لترهيب الفلسطينيين عن القيام بأعمال مسلحة لتحرير وطنهم بنقل الحرب الى ما تبقى منه بأيديهم  ، وإختبار ردات االفعل .
كان الوالد قد سافر إلى الزرقاء وقد ترك والدتي حاملاً في أسابيعها الأخيرة ، مستطلعا إمكانية العمل هناك ، تاركا اليسير من النقود حتى بالكاد كان يكفي لشراء الخبز والزيت بقرشين يوميا ، وكنت المكلف بذلك ..

ذات يوم صحوت مبكرا ، فوجئت بوالدتي مستيقظة تبكي بحرقة وصمت .. كانت دموعها تهطل بغزارة ، نظرت إليها مستغربا وحزيناً لحزنها ، فتَوَجَّهَتْ بنظرها الى شقيقتي ذات الأسبوع، التي أسميناها كفى ..ربما بأمل من الله أن يكفينا من الشقاء ما حل بنا .. وربما أن يكفينا ما رزق الله الأسرة من الذرية وبخاصة البنات حيث بلغن 7 بنات بمن فيهن شقيقتي الكبرى من والدي ..
اتصلنا بصهرنا صابر فجاء بفوره للمساعدة  في دفن كفى ، وأعطتني الوالدة بعض الخبز لتوزيعه عن روحها بالمقبرة،أخذته على مضض، لشعوري أنه زهيد من جهة وأن كفى ذات الأسبوع بماذا أخطأت حتى نوزع الخبز عن روحها .. وأغلب ظني أنها ماتت جوعاً ، فمن اين لوالدتي أن ترضعها ما يكفي ، وهي لم تكن لتشبع .
كان بائع حلوى محلية يقف مسترزقاً عند منعطف منحدر بسيط مقابل موقف السيارات ، جئت إليه مرة مع إحدى شقيقاتي بقروش قليلة واشترينا بعض الحلوى، لفها على ورق دفتر مدرسي مكتوب عليه ، كان مبتسماً ، لم أتبين ما خلف ابتسامته ، عدت إليه ثانية بدفتر مدرسي مقايضا الورق بالحلوى ، لم يعتذر وأعطاني بعض الحلوى .. كنت أريد أن تكفي الحلوى للجميع ، فتناولت بعفوية طفولية ورقة من على الأرض ، ومددت بها إليه طفقت دمعة من عين الرجل ، وأشار لي أنْ أرمها وضاعف كمية الحلوى .. تأملت في وجهه تذكرته فقد كان ذات بائع الحلوى الذي قذفت بسدره على الأرض قبل فترة .. بقيت أنظر إليه وأنا أغادره .. وبي نظرات لها ألف مغزى ، فيما لم تتوقف عيناه عن الدمع .

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها