الثورة – ثورة زينية:
بعد 18عاماً من الإهمال والتأجيل عادت قضية السكن البديل إلى الواجهة مع قرعة جديدة أجرتها محافظة دمشق لاختيار 20 مستفيداً من أصل 79 تقدموا بطلبات استحقاق، في محاولة لإعادة بناء الثقة مع المواطنين المتضررين وترميم ما خربته سنوات من الفوضى والتخبط الإداري الذي رسخته السلطة المركزية لنظام الاسد المخلوع خلال العقود الماضية.
الإخلاء القسري
في عام 2007 بدأت محافظة دمشق تنفيذ مخطط تنظيمي شمل إزالة حي مزرعة نصري الواقع ضمن منطقة جوبر، وذلك بحجة شق طرق تنظيمية موازية لشارع الدباغات، وجاءت عملية الهدم مفاجئة وقسرية وسط مقاومة الأهالي واعتراضاتهم ونداءات متكررة بتأمين سكن بديل عادل.
وعلى الرغم من الوعود المتكررة من المحافظة حينها خرج المئات من الأهالي من منازلهم إلى المجهول، إذ وعدوا أنهم سيحصلون على سكن بديل أو تعويض عادل لكن السنين مرت من دون تنفيذ حقيقي لهذه وبقيت القرارات حبيسة أدراج الوزارات المعنية وتحولت الوعود إلى مجرد حبر على ورق وسط غياب أي آلية تنفيذية حقيقية، وفساد طال كل مفصل في مؤسسات التخطيط والتنفيذ.
في عام 2009 سلمت 74 شقة لم تخصص رسميا كمساكن بديلة، ما أوقع الأهالي في دوامة قانونية وحقوقية امتدت لسنوات من دون أي تدخل من السلطات العليا لوضع حد لهذا العبث الإداري.
من الوعد إلى الإهمال
يقدر عدد المستحقين في بعض المناطق مثل جوبر ومزرعة نصري بالآلاف وفي ظل تأخر التوزيع اضطر الكثير منهم إلى السكن في بيوت بالإيجار أو مناطق سكن عشوائي أو اللجوء لأقاربهم.
معاناة يصفها ربيع قطشة أحد المهجرين من مزرعة نصري: منذ عام 2007 ونحن ننتظر دفعنا الأقساط وصدقنا الوعود ورأينا كيف أن مشاريع تبنى أمام أعيننا، ولا مكان لنا فيها ولا نعلم متى سنستلم شقة، أو إن كنا سنستلم أصلاً، حتى هذا اليوم الذي استدعتنا فيه محافظة دمشق للحضور قرعة للحصول على السكن البديل.
نريد نتائج لا قرعات جديدة
المهندس نبيل أبو غرة من السكان المهجرين من حي جوبر يقول: رغم المبادرات الأخيرة لا يزال المواطنون يتطلعون إلى حلول جذرية تضمن العدالة والشفافية بعيدا عن الانتقاء أو التسويف والقرعة الأخيرة، على رمزيتها تبقى غير كافية أمام معاناة استمرت قرابة عقدين وتحتاج إلى خطة وطنية شاملة تعالج الجذور لا فقط النتائج.
خلال السنوات اللاحقة أُطلقت مشاريع كبرى مثل مدينة ماروتا سيتي وباسيليا سيتي، وتفاءل الكثيرون آنذاك معتبرين أنها ستشكل الحاضنة الأساسية لتوزيع السكن البديل، لكن الواقع كان مغايراً وصادماً.
وفي عام 2022 أعلنت محافظة دمشق عن تخصيص 522 شقة في باسيليا سيتي، لكن معظم المستحقين فوجئوا باشتراط دفع 30بالمئة من قيمة السكن خلال فترة قصيرة حيث المبالغ بعشرات الملايين، وإلا سيفقدون حقهم بالتخصيص.
في أيلول 2024، وبعد أكثر من 8 سنوات على صدور المرسوم 66، وزعت المحافظة 13 شقة فقط ضمن ماروتا سيتي على 38 مستحقاً، وهو رقم يعد ضئيلاً مقارنة بآلاف المتقدمين.
وسط هذا المشهد المعقد، جاء الإعلان عن قرعة لتوزيع شقق سكنية بعد 18 عاماً لتثير جدلاً كبيراً: هل تحقق بذلك مبدأ العدالة؟ هل كان التوزيع شاملاً ومنصفاً؟ وماذا عن آلاف الأسر التي لا تزال تنتظر من دون أي تعويض أو سقف زمني واضح؟.
رغم كل الانتقادات يرى البعض أن الخطوة الأخيرة قد تشكل بداية لتصحيح المسار شريطة أن يتبعها تنفيذ شامل وشفاف يضمن وصول الحقوق لكل من دفع الثمن من عمره واستقراره.
محافظة دمشق تحاول.. والنتائج محدودة
رئيس دائرة الإسكان في محافظة دمشق أسماء الجراح قالت لصحيفة الثورة: اليوم تحاول المحافظة قدر استطاعتها إصلاح هذا الملف المعقد رغم ضآلة الموارد والقيود المفروضة عليها، مضيفة: القرعة الأخيرة التي أُجريت لتخصيص 20 شقة في البناء البرجي B في منطقة الزبلطاني من أصل 79 طلبا هي جزء من خطة تهدف إلى إعادة تدوير ملف مهمل لعقود وإعطاء بصيص أمل للمستحقين.
تصريحات تعكس رغبة فعلية في التقدم لكنها تصطدم بتراكمات سياسات مركزية عطلت التنمية، وزرعت ثقافة الإهمال والتسيب لسنوات.
بين عدالة مقيدة وفساد بنيوي
خبير تخطيط المدن المهندس كمال الجابي أكد أنه من السهل إلقاء اللوم على محافظة دمشق لكن واقع الحال يشير إلى أن المسؤولية الكبرى لا تقع على كاهلها وحدها بل على شبكة معقدة من القرارات المركزية والتوجيهات السياسية في العهد البائد التي أعاقت تنفيذ أي مشروع إصلاحي حقيقي، منوهاً بأن محافظة دمشق اليوم تدفع ثمنا باهظا لقرارات لم تصنعها ولسنوات من الفساد البنيوي الذي أنتج سلطة بلا مساءلة وإدارات بلا تمكين ومشاريع بلا تمويل، ومع ذلك تواصل المحافظة خطواتها البطيئة لكن الثابتة نحو إعادة بعض الحقوق إلى أصحابها.
ويضيف المهندس الجابي: لقد كانت الوعود الرسمية آنذاك تؤكد على ضمان حقوق المواطنين في السكن البديل، وقد واجه سكان العاصمة أزمة حقيقية تجاوزت حدود المعاناة اليومية، وتحولت إلى فوضى مدعومة بفساد وسمسرة تبتلع حقوق آلاف الأسر المشردة والمهددة بالضياع، ولم تتوقف الأزمة عند هذا الحد بل عمقتها صراعات داخلية حول ملكية العقارات وتزوير عقود ووكالات ما أدى إلى تجميد مشاريع بأكملها، كل ذلك كان يحدث في ظل غياب واضح للمساءلة والشفافية، إذ تأرجحت السلطات بين التبرير والتجاهل تاركة آلاف العائلات بلا جواب أو حل.
وأشار إلى أن أزمة السكن البديل في دمشق ليست مجرد تأخير في مشاريع إسكانية بل تجسيد حقيقي لإرث ثقيل من الإهمال والتخريب المؤسسي الذي راكمته سلطات النظام البائد على مدى سنوات، مضيفاً: اليوم تحاول محافظة دمشق وسط العجز والتراكم أن ترمم ما تبقى من ثقة الناس بالدولة ورغم الجهود المتواضعة يبقى الطريق طويلا ويبدأ أولا بالمحاسبة والشفافية لا بإعادة تدوير الوعود.
كلمة المحرر..
ما جرى في ملف السكن البديل في دمشق لم يكن مجرد خلل إداري أو تأخير تقني في تنفيذ مشروع حكومي، بل هو في جوهره تعبير عن انهيار العلاقة بين الدولة والمواطن خلال فترة النظام البائد.
فعندما يهجر الإنسان من منزله بوعد العودة إلى حياة أفضل ثم يترك لعقود في العراء أو في مساكن مؤقتة لا تليق بالكرامة الإنسانية، فإننا لا نتحدث فقط عن أزمة إسكان، بل عن نكسة في مبدأ العدالة والمواطنة.
محافظة دمشق اليوم تحاول ضمن الإمكانات ترميم هذا الشرخ العميق، لكنها تفعل ذلك مكبّلة بإرث من القرارات العشوائية والفساد المركزي والمشاريع التي لم تكن يوماً تستهدف الناس بل تستهدف الأرض والربح والسلطة والتغيير الديموغرافي لدمشق.
ما فعله النظام البائد خلال السنوات الماضية هو إفراغ مفهوم السكن من مضمونه الاجتماعي وتحويله إلى ورقة استثمار وربح ووسيلة للضغط السياسي ولإعادة تشكيل البنية الديمغرافية بما يخدم أهدافه وليس احتياجات الناس.
الآن وفي في المقابل إذا كانت محافظة دمشق جادة في محاولة إصلاح هذا الملف فإن ذلك لا يكفي وحده، المطلوب اليوم إعادة بناء الثقة من الجذور عبر خطوات جريئة تتمثل بالاعتراف بالأخطاء ومحاسبة المتسببين وإطلاق مشاريع شفافة تحت رقابة مجتمعية وإعلامية، وإعادة تعريف السكن كحق لا كامتياز.