هفاف ميهوب
مثلما اعتدنا بأن تكون القصيدة الفلسطينيّة، صرخة حقٍّ تواجه عدوّها، وتبلسمُ معاناة وآلام شعبها، اعتدنا بأن تكون الكلمة كالرصاصة التي تخترق كيان هذا العدو فتمزّقه، وبغضبها المتصاعد مع تصاعدِ أحقاده وإجرامه ووحشيّته..
هذا ما تلمّسناه في قصائد غالبية شعراء فلسطين، ولاسيما المقاومين، وعلى مدى نكبتهم وتوالي فصول المعاناة والتشرّد والغربة، مثلما “فصول الملح والجرح” النازفة دماً، ها نحن نرى مداه يتّسع، ويّغرق أكثر فأكثر قطاع غزة..
إنها الفصول التي واكبها الشاعر “رضوان قاسم” مُذ غادر أرضه التي لم تغادره، ولأنها القصيدة التي كتبها بدمِ قلبٍ، تخضّب بألمها فأنشد:
/حيفا تغازلُ غزّة/ واللدّ تبكي في صفدْ/ والقدسُ جرحٌ نازفٌ/ من أين يأتينا الجَلَدْ؟!..
سبعونَ عاماَ لم ينمْ/ فينا الحنينُ ولا رقدْ/ شهدت جراحي لم ينمْ/ ودمُ الشهيدِ لقد شهدْ/
إن تغصبوهُ ترابنا/ صوتُ الترابِ كما الرعدْ/ أو تقتلونَ رجالنا/ لم تُنقِصوا منّا العددْ/.. إن النساء بأرضنا/ غضباً ستنجبُ لا ولدْ../..
إنه الحبّ.. حبّ الوطنِ الذي طال وجعه وعمق جرحه، إلى أن بات دمه مداد شاعرٍ واجه العدوّ بنيرانِ قصيدته.. قصيدة “قاسم” التي انطلقت من حنجرة وطنٍ، قال عن حاجته لصوتهِ وصرخته:
“الوطن دائماً بحاجة لمن ينقل صوته أيَّاً كان.. لصرخةٍ يطلقها فمٌّ أو قلم يستنهض التمرّد على الواقع”.
نعم، هي صرخةٌ نابعة من حنجرة فلسطينه، تتعالى وتتوالى ولا تلقي إلا الشّعر، وصداهُ يقينها ويقينه:
“لم ألقَ إلا واحداً بالألفِ/ يُزهرُ في الليالي المظلمة/ والآخرون مقنَّعون يخبِّئون مسيلمهْ/..
كلّ هذا اليقين، والعذر يترنّح خجلاً أمام الأعداد الشهيدة من أبناء فلسطين.. أيضاً، أمام جرح كلماته التي ضمّخته بوجعها، بعد أن أشعرته بأنه لاجئٌ لايملك إلا عناقها عن بعد، والاعتذار لعظيم فائها:
“عذراً بلادي يا فلسطينُ الّتي/ قبلَ الولادةِ حُبّها أتنسَّمُ/ عُذراً فباسمكِ لن أقولَ قصيدتي/ إن قلتُ فاءً بعدها أتلعثَم/ رَجَزٌ بَسيطٌ وافرٌ متقاربٌ/ كلُّ البحورِ للاجئٍ لا تُنظَمُ/ بحرٌ لهُ يُدعى الشَّتاتَ عُروضُهُ/ خِيَمٌ خيامٌ خيمةٌ ومخيَّمُ”.
لا تنتهي آلام “قاسم” أبداً، ولا حتى آلام قصيدته.. آلامه التي سببها بعده عن وطنه، وآلام قصيدته الغاضبة من عدوّها، والفخورة بغضبِ أبناءِ وطنها، ممن تواجه بغضبهم المحتل فتخاطبه:
“غضبٌ يفجِّرُ حافله/ علمٌ ويصبحُ قنبله/ لا تختبرْ غضبي/ أنا لستُ كالعربِ/ حتى الحجارة قاتله/ حتى حبوب السنبله
من ذا يجيركَ من دمي/ ودمي بدايةُ قافله/ فاقرأْ بهِ كتبي/ رغمَ الحصارِ وجوعهِ/ أنا غزَّةُ المتفائله”..