لم تكن إيديولوجيا البعث في يوم من الأيام إيديولوجيا صلبة وجامدة بل وصفت نفسها بالنظرية النضالية القابلة للتطوير والاستجابة لضرورات الواقع وتحدياته والانفتاح على كل التجارب بما يفيد تحقيق الأهداف التي نذر البعث نفسه لتحقيقها من منظور أنها تمثل وتتمثل المصالح العليا لأبناء الأمة وملبية لتطلعاتها في بناء مجتمع رغيد متناغم ومنسجم وفاعل، وإذا كان البعث قد عمل عبر مسيرته النضالية وأنجز وحقق المزيد من النجاحات، وتعثر في تحقيق بعضها الآخر على أهميتها ومحوريتها لجهة أنه امتاز عن غيره بأنه امتلك مشروعاً قومياً وقيادات فذة تتمثل راهناً بالرفيق الأمين العام للحزب سيادة الرئيس بشار الأسد تمثل بحكم تكوينها الفكري والعقائدي والأخلاقي صاحبة رؤية تجديدية ذات طابع مكثف سياسي واجتماعي وعقائدي يصل إلى مستوى المشروع الوطني والقومي الذي يستمد عناصره من فكر الحزب وأدبياته وعقيدته مضافاً إليها التجربة الشخصية والتجربة الذاتية وآليات التفكير والذهنية المنفتحة والعملية التي تمتلك قدرة فائقة على المزاوجة بين الثابت والمتحول في مقاربة واقع متغير ومتبدل وظرف تاريخي استثنائي بالمعنى العميق للكلمة، وهنا تصبح الأفكار المطروحة ساحة اختبار للجميع، وخاصة القوى الفاعلة في الميدانين السياسي والاجتماعي والكوادر الحزبية وقياداتها المتسلسلة لقياس قدرتها على التعاطي مع الأفكار المطروحة بالمستوى المطلوب وامتلاكها إمكانية تحويل الأفكار المطروحة إلى سياسات وبرامج عمل تقود بالنتيجة إلى سلوك وثقافة مجتمعية وسياسية ترتقي بالوعي العام إلى المستوى المنشود في ظل التحديات والمهام القائمة والملحة في المجال العام.
ولا شك أن أفضل الأفكار هي تلك التي تمتلك قدرة عالية على التطبيق بحيث تتحول إلى كائنات حية يلمسها ويعيشها الجميع وتسهم بشكل خلاق في إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، وإذا كان ثمة أفكار جيدة لا تجد مرتسماً لها على صعيد الواقع، فالمشكلة ليست في تلك الأفكار، وإنما في عدم قدرة الممارس على وعيها واستيعاب مضامينها وجوهرها من هنا تأتي أهمية أن تدفع الأحزاب والقوى السياسية إلى الواجهة الكفاءات والكوادر القادرة على التعاطي الفعال مع الأفكار المطروحة في إطار عملية التجديد التي تستلزمها طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في سيرورتها التاريخية وما تواجهه من تحديات وحاجة لاستجابة واعية لمتطلباتها.
إن التغيير في الأدوات والعناوين الكبرى التي أشار إليها الرفيق الأمين العام للحزب بشار الأسد في اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد الشهر الماضي تأتي في إطار التعاطي مع الأفكار والعناوين الجديدة والبيئات السياسية المرتبطة بتغيير أو تجديد في المناخ الحزبي والوطني والسياسي والديمقراطي هي مسألة بالغة الأهمية لأنه لا يمكن التعامل مع أفكار جديدة بأدوات قديمة والقديم المقصود به هنا هو العقلية والذهنية وطرائق التفكير وليس شيئاً آخر أخذاً في الاعتبار أهمية ومحورية دور الشباب في أية عملية تطوير أو تغيير بنيوي في المجالين السياسي والفكري والمجتمعي ولاسيما حال حصول انسداد في العمل الحزبي أو جفاف في الحوض السياسي أو نمطية قاتلة في الأداء العام.
إن نجاح القوى السياسية والأحزاب والمجتمع المدني بشكل عام في توطين الأفكار الجديدة المطروحة وتحويلها إلى ثقافة مجتمعية مسألة بالغة الأهمية، وهذا لا يتحقق إلا من خلال فعالية سياسية وحراك حزبي وجماهيري ديمقراطي وفعال يتحول فيه منتسبو الحزب وفي مقدمتهم كوادره النوعية إلى فاعلين سياسيين واجتماعيين في بيئاتهم وحيثما تواجدوا، وهذا يحتاج إلى برامج ثقافية وسياسية وأدوات فاعلة وفعالة على كل المستويات، وتصبح هذه المسألة أكثر أهمية في الظروف الاستثنائية التي تمر بها المجتمعات سواء أكان ذلك بفعل داخلي أم خارجي يستهدفها بنية ومنظومة وكيانا وهوية.
إن الظرف الاستثنائي الذي تمر به سورية الدولة والمجتمع والهوية السياسية والحضارية يستوجب تحريض المخزون الحضاري والثقافي للشعب العربي السوري بكل أطيافه وانتماءاته التي تضرب عمقاً في التاريخ لأن أحد أهم أهداف العدوان والحرب الكونية القذرة التي شنت وتشن على سورية يتمثل في ضرب الفكرة السورية التي تشكل النموذج في العيش والتفاعل والتكامل والتناغم بين أطياف الشعب السوري، وهي التي انصهرت تاريخياً لتشكل ما يمكننا تسميتها النموذج السوري الذي هو في جوهره تجسيد واختصار ونمذجة لفكرة العروبة بأبعادها الحضارية والثقافية وفضائها القومي الممتد.
إن محاولات ضرب وتفتيت الفكرة الوطنية وتدمير العقد الاجتماعي والولاء الوطني لكل قطر عربي ليست مسألة جديدة بل إنها مسألة تزامنت مع محاولات ضرب التيارات القومية وإخراجها من ساحة التداول السياسي والفكري والأيديولوجي، وهي فكرة مركزية، وهدف ثابت لتيارات رجعية وظلامية ارتبطت موضوعياً مع قوى خارجية وتحالفت معها ولاتزال على مدى عدة عقود من هنا تأتي أهمية تشكيل حالة وعي على المستويين الوطني والقومي لمواجهة ذلك ترتكز إلى فكرة أن تعدد الانتماءات في الوحدات الصغرى على المستوى الوطني يجب ألا تلغي وحدة الولاء للوطن أو تصطدم بفكرة العروبة الجامعة بل إغناء وتعزيز لها.
إن فكرة العروبة بمضمونها ومجالها الثقافي والجغرافي التي تبناها البعث بوصفها أحد عناوينه الرئيسية ما زالت هي الحل على المستويين القطري والقومي، ولكن عبر مقاربات جديدة طالما أشار إليها الرفيق الأمين العام للحزب الدكتور بشار الأسد من خلال ربطها بالمصلحة وليس بوصفها حلماً رومانسياً فقط، وهذا يعطي ويمنح الهدف ديناميكية عالية وتياراً واسعاً. يتجاوز الإيديولوجيا الصلبة إلى الفضاء الشعبي والوطني والقومي الواسع يترافق مع تشبيك للمصالح عبر الرأسماليين الوطني والقومي والكتلة الصلبة في المجتمعات العربية ما يوفر أرضية قوية وصالحة لبناء قومي يتأسس على مصالح الأفراد والجماعات والدول ويؤدي بالنتيجة إلى تشكيل تكتل عربي اقتصادي واجتماعي وجيواسترتيجي يصبح “رقماً في المشهد الدولي وشريكاً ” في بناء نظام دولي جديد تبدو إرهاصاته الأولى واضحة جلية، ويسعى الجميع ليكونوا فاعلين فيه لا مراهنين على آخرين أياً كانوا حلفاء أو أصدقاء.