الملحق الثقافي- حسين صقر:
لعل أبرز ما يميز المشهد الروائي السوري خلال العقود الأخيرة، هو الانتقال التدريجي لرواية الأحداث بشكل بسيط من الواقع المباشر، إلى الواقع المعاش ولكن عبر فنية واضحة ومنهجية مدروسة مُقدمة ضمن تقنيات مألوفة، لم تتخل عن تلك الواقعية، ولم تغرق في التقنية وجعلت بين خطي الأدب الروائي خيطاً رفيعاً لن ينقطع، جعل الكاتب يستند في رواياته إلى الماضي ليستفيد منها في الوقت الذي يعيشه.
الدليل على ذلك هو تحول بعض الروايات إلى نصوص مسرحية تحدثت عن واقع معين آنذاك، وعندما نراها أو نشاهدها نلمس بأنها تتحدث عن واقعنا اليوم، وبهذا تتحول في ذات التدريج إلى رواية تنضح أنها من الواقع، لكنها وقبل أن تسكبه في قالب الرواية تتخلى عن واقعيته نسبياً لحساب فنيته.
إذا فالمشهد الروائي السوري شهد تطوراً واضحاً كان ومايزال يشكل خطة عمل روائية يمكن الاستفادة منها على نطاق واسع، ليس عربياً وحسب، بل عالمياً، ولهذا تمت ترجمة العديد من الروايات إلى اللغات الأجنبية، وهو ما رصده الكثير من الكتاب والأدباء، حول التجديد الفني في الرواية السورية،، والذي يثبت قدرة المؤلفين والمبدعين السوريين على ابتكار أساليب فنية تتحدث عن مواضيع سابقة لم يعيشوها، بل سمعوا عنها ووصلت لهم على شكل حكاية، ومواضيع أخرى عرفوا تفاصيلها، لأنهم ربما كانوا أحد أبطال شخصياتها.
من ناحية ثانية عبرت الرواية السورية خلال السنوات الأربعين أو الخمسين المنصرمة عن مشهد التوتر المشحون بهموم الهوية والمصير والحرية، وبأزمات الإنسان العربي المعاصر وقضاياه المصيرية ومنعكسات الصراع العربي الإسرائيلي على حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وظروف الحروب التي دفعت للنزوح واللجوء والهروب وغير ذلك من القضايا المعاشة والتي أغنت التجربة الإبداعية، وذلك بسبب تنوع الأحداث والقصص والحكايات والمواقف التي حصلت مع هؤلاء خلال تلك السنوات، مايعني أن الرواية السورية تمكنت خلال الفترة التي نتحدث عنها من امتلاك أدوات تقنية استطاعت من خلالها بناء أفق جمالي مبتكر يجمع بين وضوح الفكرة وعمقها من جهة، ومتعة التلقي عند القارئ من جهة أخرى، فكانت هناك منهجية تهتم بالتفاصيل التي تجعل الأعمال ممتعة ومدهشة سواء عند القرّاء أم النُقّاد.
لكن ما ينغص الرواية السورية عدم انتشارها، وندرة معرفتها خارج بلدها، والروائيون السوريون، لم ينالوا حظهم من الدراسة في العالم الغربي، وآثارهم الأدبية لم تترجم إلى اللغات الأخرى، وقد يعود السبب في ذلك سوء التسويق الأدبي، الذي يجب أن يكون كالتسويق العقاري أو الاقتصادي، حيث الغرب لديه صناعة التسويق الفكري، ولهذا نرى كيف تم غزو العالم العربي بأفكار دخيلة جاءت من خلال التقنيات والألبسة والأدوات.
قد يقول قائل: إن ثمة مغالاة في هذا الكلام، ولكن المتابع للثورة التقنية لايجد غرابة في ذلك، ولهذا لابد من لفت الانتباه إلى هذا القصور، وتلافيه في الحدود الممكنة، أملاً بانقلاب يحدث ثورة فكرية في تاريخ الرواية، قد يحيي الكثير من الروايات التي لم تصل أصلاً إلى أيدي القراء، وربما تم وأدها او مصادرتها.
بعض الروائيين رأوا أن محاولات التجديد يجب أن تتناول المحتوى والشكل، والفكرة العامة والبنية، الزمان والمكان، اللغة والأسلوب، والراوي والقارئ، لأن الأخير يقدم فوائد جليلة، أهمها الحديث المتواصل عن تلك التجربة والترويج لها في مجالس الفكر والأدب.
فالترجمة والنشر والترويج كلها عوامل تمثل الأداة المثلى لتطوير الإبداع في هذا الفن، شأنه شأن سائر الفنون والأشياء المستوردة، وبالتالي يتم إفساح المجال للمبدع كي يبدع، والناقد كي ينتقد، وبهذا يحصل القارئ على الغذاء الثقافي الذي يحتاج إليه.
العدد 1176 – 30 -1 -2024