الابتكار، والتجديد أمران أساسيان في مسار التقدم، والتطور على مر العصور، وأهميتهما تتصاعد باستمرار كلما صعدنا في سلم الحضارة، ومجالاتهما لا تحدها حدود ما دام العقل البشري يفكر، ويبدع. وعالمنا المعاصر اليوم يحتفي بهما أيما احتفاء بعد أن هيأ لهما مناخاً ملائماً لولادتهما لتأتي الفكرة الجديدة التي لم يسبق لأحدٍ أن جاء بها من قبلُ.. وفي عالم يتغير بسرعة، تكمن قوة الفكرة المبدعة في أنها تعكس رؤية جديدة، وتتحدى القواعد المعتادة، وتصقل الحاضر، وتبني المستقبل بقدرتها على البقاء، والتأثير.
وكلما تزايدت المشكلات، والتحديات، والأزمات على مختلف الصعد أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً للعثور على حلول مبتكرة تكون إنقاذاً للبشرية، ودواءً لها.. والأمر لا يقف عند ذاك الحد فقط، إذ إن أهمية الفكرة المبدعة لا تقتصر على الابتكار بل إنها تمتد لتحفيز العقول، وإشعال شرارة الإبداع، بينما تشكل حافزاً أكيداً للتنافس بين المبتكرين، والمبدعين، والموهوبين، وللتميز، وللبحث عما هو أبعد، وهذا ينسحب على الأفراد، والشركات، والمؤسسات، والدول حتى، مما يرفع من مستوى الأداء، والجودة بآنٍ معاً.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الابتكار، والأفكار الجديدة لا تأتي من العدم، أو من فراغٍ، وإنما هي تستند إلى التجارب، والمعرفة المكتسبة. فعندما يأتي شخص ما بفكرة فريدة، ومبتكرة يكون قد استطاع أن يجمّع خيوط المعرفة في نسيج مختلف لا سابق له. وهكذا يتم تصاعد المعرفة القائمة، وتطويرها إلى مستويات أعلى فأعلى من قبل الأفراد، كما المجتمع، لما لذلك من أهمية في تحقيقٍ للتغيير، والتقدم، والازدهار، وإثراءٍ للمعرفة ذاتها، وتوسيعٍ لآفاق الفكر، وحل المشكلات.
في عالمٍ يزداد تشبعاً بالأفكار يوماً بعد يوم، يصبح الإتيان بفكرة جديدة أمراً بالغ الصعوبة. لكن ذلك لا يعني الاستسلام، والاكتفاء بتكرار ما قاله الآخرون. فالابتكار الذي تنفتح أبوابه على كل ما في الحياة من علمٍ، وفنٍ، وفكرٍ، لا يساعد فقط في حل مشكلاتٍ لم يتم حلّها من قبل بل بإمكانه أن يغيّر العالم بأسره. لكن السؤال الأهم في بيئة عالمية تضج بالأفكار هو: كيف نأتي بهذا الجديد، والإبداع فكرة، والفكرة إبداع؟ أجل.. الإبداع موهبة لا تلقي بثمارها ما لم تتم رعاية بذورها، والقدرة على الإتيان بفكرة جديدة هي مهارة قيّمة لا تُصقل إلا بعناصر الثقافة، والمعرفة، والاطلاع، والملاحظة، ويضاف إليها جميعاً الجرأة على التفكير غير المؤطر بمفاهيم مسبقة. إنها تلك اللحظة المشرقة عندما تسكب الفكرة المبدعة ألوان الجمال، وتحطم حواجز المألوف.
كما الدوائر تتوالد من بعضها بعضاً إذا ما ألقي حجر في مياه ساكنة كذلك هي الابتكارات، والاختراعات، والاكتشافات.. فمن فكرة أولية لموقع تواصلٍ اجتماعي انبثقت عشرات الأفكار لمواقع أخرى. فكرة واحدة لها السبق استطاعت أن تغيّر وجه العالم.
عندما كتب (هـ.ج. ويلز) رائعته (آلة الزمن) صاغ حلماً طالما راود البشرية، وداعب خيالها في فتح عين على دهور مضت، أو رفع الأعناق لاختلاس النظر إلى بوابة المستقبل، وما سيأتي معها من جديد، ومثير. ليكون (ويلز) بالتالي أول من يعبر الزمن بآلته التي مازالت روايتها تفتن الكتّاب، وصنّاع السينما يستوحون من فكرتها الأم قصصاً، وأخباراً.. لكن الفكرة الأولى تبقى هي الابتكار، والإبداع. ومثلها في قصص (ألف ليلة وليلة) وقد صاغها خيال جمعي مبتكِر لا منافس له، فطارت تلك القصص إلى كل الدنيا على بساط للريح، وانعكست ظلالها في مرآة سحرية، وفُتحت أمامها الأبواب الحجرية بمجرد نطق كلمتي: (افتح يا سمسم)، لتظل ملهمةً لكل كتّاب العالم، وفي الغرب أكثر منه في الشرق.
وما دقات الساعة الثانية عشرة التي تبطل مفعول السحر في قصة (سندريلا)، وما التفاحة التي قضمتها (الجميلة النائمة) وجعلتها لا تستيقظ إلا بقبلة حب حقيقي، وغيرها من قصص الأطفال إلا إبداعاً مبتكراً يرسم أفلاكاً تدور فيها الأحلام، وتولد منها الأفكار الجديدة، لتظل كل هذه الإبداعات مصدر إلهامٍ للفكر الإنساني في الفن، والأدب، وفي أروقة المختبرات العلمية أيضاً.. ففي كل قصة ناجحة تكمن فكرة مبدعة.
من بحر الأفكار العابر، تبرز تلك المبدعة كنجمة مضيئة تهدي الدروب.. هي بذرة تنبت، وتزهر لتحقق التغيير، والتميز لأنها تعكس قوة العقل وقدرته على تحويل العالم بأكمله لمكان أفضل. هي لحظة الإلهام التي تنير الأذهان، وتحرك القلوب، وتمنح الحيوية للمشاعر، والمفاهيم، وتجعل العالم يلتفت، ويستمع عندما تملأ الفكرة المبدعة الفراغات بالألوان، والصوت، والحياة، وتخلق تجارب فريدة للعقول، والأرواح.. وفي نهاية المطاف هي لغة العبقرية، والمفتاح لفضاء من الإمكانيات اللامحدودة.