الثورة – رفاه الدروبي:
يرى الباحث أنس تللو أنَّ الظرافة فن متبادل، خلق الله أشخاصاً ظرفاء لهم طابعٌ مُحبَّب، يطمئنُّ إليهم المرء، ويرغب بالاقتراب منهم والاستماع إلى نوادرهم، فنراهم دوماً مبتسمين، لهم حركات وإيماءات توحي بالبشاشة والضحك، وبعضهم لديهم قدرة أكبر، على إلقاء الطرف والنكات بشكل سريع ومتلاحق؛ لكنَّهم لا يبتسمون، بينما ينظر الناس إلى سيمياء وجوههم فيغرقون في الضحك، ويصل بعضهم إلى حدِّ الإغماء.
الباحث تللو أوضح خلال محاضرته في ثقافي أبو رمانة أنَّ الإنسان الظريف ليس مجرَّد رجل يُثير الضحك؛ بل إنَّه إنسان حاذق التفكير، إذ يمكن أن يُقدِّم طرفة في كلِّ لحظة تتوافق مع كلِّ موقف، ويطرح الحلول لمعظم المشكلات ضمن إطار بليغ من الرقة واللطافة.
إنَّ معظم رجالات الكوميديا في العالم العربي كانوا كتَّاباً للسيناريو وممثلين ومخرجين في آن معاً، وارتجلوا النكتة في موقعها وزمانها المناسبين عندما تمكَّن بعض الظرفاء من الانتقال إلى المسرح حاملين ظرافتهم المبهجة، حتى انخرطوا في مجال الفن وغدوا أبطالاً في عالم الكوميديا وكانت سهرات الظرافة تبدأ عند المساء، ولا تنتهي إلا عند منتصف الليل.
فيما كان من أهمِّ الظرفاء الأديب والباحث والمؤرِّخ والناقد أحمد الجندي الموسيقي، وعازف العود، وصاحب المؤلفات العديدة، أمضى ابن سلميَّة حماة ومولودها معظم سنوات عمره في العاصمة، ورافق أحداثها وسامر ظرفاءها، ووصفه الكاتب عبد الغني العطري أنَّه “آية الظرف وحضور البديهة والجواب اللاذع” دائم التردُّد على دار الشاعر فخري البارودي؛ كما التقاه في دار الشاعر أحمد الصافي النجفي، تلاه حسني تللو الظريف الدمشقي، كونه واحداً من طليعة ظرفاء دمشق، ويجتمع في دار البارودي بحي القنوات مفكِّرون وأدباء وكان صفيَّه ونديمه وتوءم روحه، وتُشبه العلاقة بينهما بثنائيات السينما الكوميدية لوريل وهاردي.
والعجيب أنَّهما لم يكونا متشابهين في شيء، فالبارودي كان رفيعاً نحيلاً، عصبياً إلى درجة الانفجار، يتكلم بسرعة، أما تللو فكان سميناً مكوَّراً بارداً هادئاً حتى درجة الصقيع بينما تظل النكتة الواحدة في فم تللو وقتاً طويلاً يلوكها ويعجنها، وتخرج مُتثاقلة مُتباطئة وإذا تكلَّم سكت الآخرون، وأصغوا بعيونهم وقلوبهم. كان سيِّد المجالس وأميراً من أمراء الظرف وخفَّة الروح، يمتاز بصوته الهادئ وألفاظه الرشيقة المُنمَّقة، ويُشرك معها وجهه وعينيه الجاحظتين، وحاجبيه وخدِّيه، وكلّ تقاطيع وجهه، ويفرد كلَّ أسلحته الأخرى في التعبير.
بينما أشار الباحث أنس إلى مصطفى سويد إلى أنَّه رجلٌ تدهشك براعته الفائقة في رواية النكات والطرائف دون أن تفتر له شفة أو يبتسم. يمتلك قدرة عجيبة على إعادة صياغة الطرائف وإلباسها ثوباً جديداً من الزخرفة الممتعة تجعل المستمع يستمتع بأسلوب الإلقاء وتتوق نفسه إلى الإطار الجديد حتى ولو احتوى المعاني ذاتها، والسر يكمن في أسلوب الرواية؛ إذ بلغ من قوة شخصيته وظرافتها أنَّ الأديب حبيب كحالة صاحب مجلة “المُضحك المُبكي” الصادرة في دمشق منذ ثلاثينات القرن الماضي اتخذ من شخصيته رمزاً لابن الشعب ينشر صوره الهزلية الملوّنة على غلاف مجلته بأشكال ومواقف شتَّى، ويضع تحتها تعليقات ساخرة.
كما انتقل الباحث تللو إلى الظرافة في المسرح والإذاعة فالتلفزيون، إذ أظهر أؤلئك الظرفاء ومنهم الفنان عبد اللطيف فتحي قدرته على تقليد جميع الأصوات، حينما يتحدَّث تتحدَّث معه كل أجزاء وجهه ويديه ولا يُمكن نسيان أنور البابا “أم كامل” المتميِّز بخفَّة الظلِّ، ورحابة المُحيَّا. كان بادي الهيئة، ظاهر الهيبة. فناناً أصيلاً ذا ظرافة وبهجة، يملك الصفات الفنية ما يُؤهِّله لدخول باب الفن من مصراعيه؛ إضافة إلى عبد الوهاب قطرميز ورجا الشربجي والدكتور عبد الوهاب قنواتي، وحكمت محسن وسعيد الجزائري.