الملحق الثقافي:
هي مناسبة أن نقدم من العالم القراءة التالية : ما الأدب ولكن بصيغة ثانية : لمن نكتب وذلك بمناسبة مرور قرن على ولادة الروائي حنا مينة
نقف في هذا المقال الذي نشرته هند مسعد ويتناول رؤية سارتر للأدب قبل أن ينحرف عن الالتزام لنقدمه للقارىء العربي
«الكلمات مسدسات محشوة بالذخيرة، والكاتب متى تكلم فقد أطلق النار ( جان بول سارتر)
ما هو الأدب؟ سؤالٌ إشكاليٌ لطالما أرق العديد من كُتاب النصوص، شعريةً كانت أم نثرية، ففي السنوات السبع الأخيرة انتشر أدب يسميه البعض بـ «الأدب الرديء».. ولعل أبرز من أجاب على سؤال «ما الأدب؟» هو الأديب والفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر، 21 يونيو 1905 – 15 إبريل 1980. ففي مقاله طويلة، نشره جاليمارد في عام 1948، ناقش سارتر -وهو الذي يمتلك باعًا طويلاً في الأدب- مفهومه للعمل الأدبي في طرح فكري فلسفي صار فيما بعد واحدًا من أهم الأطروحات التي تناولت ماهية العمل الأدبي.
وتكمن أهمية طرح سارتر في محورين، المحور الأول: أن سارتر أديب كما هو فيلسوف.. بالتالي، فإن تفكيكه لسؤال ما هو الأدب وحجم الالتزام الواجب على الأديب نابع من أديب ومسرحي صال وجال في دروب الكتابة الإبداعية.
المحور الثاني، أن سارتر الفيلسوف الوجودي، والذي ظل حتى يومنا هذا علامة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي الفرنسي والفلسفة الوجودية بالتحديد، أضفى بكونه فيلسوفًا ثقلاً وبعداً لأطروحة «ما الأدب».. فالطرح هنا ليس أدبيًا صرفًا ولا فلسفيًا صرفًا بل كلاهما.
وسارتر بوصفه قطباً أساسياً للفلسفة الفرنسية المعاصرة، منذ نشر واحدًا من أهم أعماله «الوجود والعدم»، عام 1943، صار أملاً جديدًا للشباب الفرنسي بعد أن خرجت فرنسا محطمة من الحرب العالمية الثانية.. وهي حالة تشابه ما نعيشه في واقعنا الحالي.. فالشباب العربي يعيش حالة من الارتداد على مختلف الأصعدة، بعدما انقلب الربيع خريفًا.. لذلك، نرى أن علاقة سارتر بمجتمعه وبالواقع الذي يعيش فيه، وهو نفس الواقع المتأزم للشباب الفرنسي حينها والشباب العربي الآن، كانت منظوراً أساسيًا شكّلَ من خلاله سارتر فلسفته الوجودية ومناهجه الأدبية، بعد عام 1945.
وبأخذ معطيات الواقع الفرنسي، اجتماعيًا وسياسياً بُعيد الحرب العالمية الثانية بعين الاعتبار، سنرى أن الفلسفة والأدب هما وليدا الحقبة الزمنية في نهاية المطاف، ويقتضي كلاهما نوعًا من الالتزام تجاه معطيات ذاك الواقع.. وقد كان ھدف سارتر من طرحه لإشكالية «ما هو الأدب؟» ليس الرد على سؤال إشكالي فقط، بل الرد أيضًا على من انتقد فكرة سارتر القائمة على أن الأديب يجب أن يكون ملتزمًا تجاه قضية ما، حيث اعتبر نُقاد ذاك المبدأ أن الالتزام يتناقض مع حریة الكتابة الأدبیة.
ويبدأ رد سارتر على النقد الموجه لـفكرة «الالتزام»، التي طرحها في فلسفته الوجودية، في صفحة رقم 8، من الترجمة العربية للدكتور محمد غنيمي هلال، دار نهضة مصر، قائلاً:
«ويتساءل بعض ذوي العقول الجدِلة: <إلام هذه الدعوة؟ إلى الأدب الملتزم؟ إذن هذه هي الواقعية الاشتراكية القديمة، إن لم تكن تجديداً في النزعة الشعبية، على نحو أعنف، كم من حماقات! ذلك أنهم يقرؤون مسرعين دون أن يتدبروا، ويحكمون قبل أن يتثبتوا.. وإذن، لنبدأ من جديد، وليس في الأمر مسلاة، لا لي ولكم، ولكن علينا أن نسبر غور المسألة.. وما دام النُقّاد يدينوني باسم الأدب، دون أن يقولوا ما يفهمونه من مدلوله، فخير ما نجيبهم به أن نبحث فن الكتابة بدون مزاعم، مُتسائلين: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن؟ وحقًا يبدو أن هذا هو ما لم يسأل إنسان نفسه قط.»
وبالتأسيس على تلك الأسئلة المطروحة يبدأ سارتر الإجابة تفنیدًا لآراء معارضيه، وهم عددٌ من الأدباء والمفكرین وأبرزھم الكاتب المسرحي «جان جیرودو».. ويُسلسل سارتر طرحه في «ما هو الأدب» في عدد من النقاط أبرزها التأكيد على أھمیة مبدأ الالتزام.
فيما بعد، يستعرض العمل بشكل رئيسي ضرورة التزام الكاتب بموقف أو قضية ما.. فالكاتب يستخدم الكتابة لتوصیل رسالة أو موقف من قضیة أو موضوع.. ثم يمضي سارتر مؤكدًا على أهمية الإقرار بأن القارئ يجب أن يكون على اتفاق مع الكاتب على حرية الفهم والتأويل.
الفكرة ذاتها يمكن تطبيقها على الواقع الأدبي المعاصر.. هل الكاتب مُلزم بتناول بقضية ما أو أن يكون للعمل مبحث ما / theme يدور حوله.. هل أي كلمتين على ورق يُمكن نشرها على أنه كتاب.. ألا يكون هذا نوعًا من تمزيق الوعي!
ما هو مبدأ الالتزام
يقوم مبدأ الالتزام في العمل الأدبي عند سارتر على اعتبار أن العمل منتج اجتماعي بالاأساس مُتَصبغ لا محالة بإشكاليات الوجود الإنساني المعاصرة له أو التاريخية، وهذا لا ينفي أن يكون للعمل صبغته الفردية.
إلا أن هذه الصبغة الفردية هي الأخرى تشكلت وصار لها هوية بحكم المعطيات التي يفرضها الواقع.. وهنا نرى تأثيرًا واضحًا لوجودية سارتر على رؤيته الأدبية.. فالوجودية التي قامت في جوهرها على موقع وأهمية الإنسان في العالم، ولأن واقع الكاتب ووجوده هما ما يُشكلان هويته، فإن الهوية الأدبية وليدة للحالة الوجودية التي يختبرها الإنسان وهي محيط يدور فيه الكاتب ولا يخرج عنه.
قياسًا على ما تقدم، فإن عددًا ضخمًا من المطبوعات، التي تتعامل مع معرض الكتاب من منطلق سوق العرض والطلب، يُمكن شطبها بالكلية من جنس الأدب إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مبدأ الالتزام.
ويرى سارتر أن مبدأ الالتزام ذاك لا يطال الفنون التشكيلية أو النحت أو الموسيقا ولا حتى الشعر بل ينطبق على النصوص النثرية فقط.
وفكرة عدم التناظر تلك، يطرحها سارتر، قائلاً»وليست التفرقة بين الأدب والموسيقا أو الأدب والرسم تفرقة في الشكل فحسب، بل تفرقة في المادة أيضًا، فعملٌ أساسه الألوان أو الأصوات ليس كآخر مادته الكلمات.. فليست الألوان والعلامات والأشكال بعلامات ذات مدلول.»
وينطلق سارتر بعد ذلك إلى اعتبار الشعر، في جوهره مثل الرسم والنحت والموسيقىالا ينطبق عليه مبدأ الالتزام. فهو يرى أن الشعر يستخدم الكلمات كالنثر لكنه لا يستخدمها بنفس الطريقة.. والأكثر، أنه يرى أن الشعر لا يستخدم الكلمات بحال، بل يخدمها.
«الشعراء قوم يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية.. وحيث أن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة.. فليس لنا إذًا أن نتصور أن هدف الشعراء هو في استعراض الحقائق أو عرضها وهم كذلك لا يفكرون في الدلالة على العالم وما فيه.
من هنا فإن «الناثر»، كاتب النصوص النثرية، هو المقصود بمبدأ «الالتزام» فالعمل النثري قائم في جوهره على استخدام الكلمات كدلالات يمكن تأويلها لفهم الأشياء.. من ثمّ، يضع سارتر قاعدة مفادها أن «اللغة النثرية، بسبب طبيعتها النفعية، هي امتداد لحواسنا.»
ويرى سارتر أن جان جيرودو كان على خطأ، حين قال عن النص الأدبي: «المسألة أولا مسألة أسلوب، أما الفكرة فتأتي بعد ذلك.» فكما أن العلوم الطبيعية تضع أمام علماء الرياضيات مسائل جديدة، تدفعهم الى وضع رموز جديدة، فكذا المطالب المتجددة في المجتمع، وفيما وراء الطبيعة، تدفع الفنان دائمًا إلى البحث عن وسائل فنية جديدة، ولغة جديدة.
ونرى هنا أن سارتر مرة أخرى مُتأثر بالوجودية وبالظاهراتية في آن.. ففي الوقت الذي يرى فيه سارتر، كفيلسوف وجودي، أن الإنسان هو الوسيلة التي تتبدى بها الأشياء، وهو العامل الرابط بين كل مكونات الوجود، وله أهمية مركزية فيه، يظهر هنا متأثر بالفلسفة الظاهراتية القائمة على مبدأ «الماھیة تسبق الوجود».
فحسب فلسفة الألماني إدموند ھوسرل، 8 إبريل 1859 – 27 إبريل 1938، مؤسس الفلسفة الظاهراتية، فإن الظاهراتية تأخذ بالظواھر الموجودة الملموسة المرئیة: «الأشیاء توجد أولا ثم تتحدد ماھیتھا»[ وقد كان ذاك مبدأ إشكاليًا بين جيرودو وسارتر: الموضوع أسبق أم الشكل! وهي قضية مختلف علیھا من القدم وتتجدد في كل عصر، وقد كانت إشكالیة فكریة ونقدیة بین اثنين من كبار علماء المسلمين هما الجاحظ وابن قتيبة.
ومع ذلك، فقد كان سارتر واعيًا بالكامل أن الكلام أعجز من أن يُغير من الشر المحدق في كل آن.. ذلك أن «الخطأ» سمة مُتأصلة في النفس البشرية لا فكاك منها.. ودور العمل الأدبي هنا هو السمو بتلك النفس عن الزلات والخطايا.
إلا أن سارتر يتنازل عن تلك الرومانسية الحالمة حين يقر أن: «على الكاتب أن يتخلى عن قلمه في وقت ما وأن يحمل السلاح للدفاع عن الحرية».. فهو يدرك أن لا الكاتب ولا الكتابة تستطيع أن تغير العالم.
وهذا الوعي بمدى قوة وتأثير الكتابة هو أمر حيوي لابد أن يعيه الكاتب.. فالناثر على حد قوله: «هذا الإنسان الحر الذي يتوجه إلى أناس أحرار بالضرورة سواء تناول في أدبه الأهواء الفردية أم هاجم النظام الاجتماعي برمته».
لذلك، فإن الناثر، شاء أم أبى، حين يُباشر في عملية الكتابة، فإنه يُصبح ملتزمًا تجاه فكرة ما أو قضية ما وهي فيما بعد ستكون «المباحث / themes» التي يدور حولها العمل الأدبي.. وطالما أن المباحث على تعددها هدفها إعلاء الحق على الباطل وتحرير الإنسان؛ فإن كل كاتب ملزم بمقاومة الاستبداد والفاشية لأن «كل محاولة لاستعباد قرائه تهدد فنه مباشرة.»
نفس الفكرة لو تم تطبيقها على وابل المطبوعات، الذي أغرق السوق بعد الربيع العربي بالذات، سنرى أن هناك جزءاً ضخماً من هذا الوابل لا يحتمل أن يكون إلا مجرد هراء.
لمن نكتب؟
يرى سارتر أن الناثر لا يستطيع الكتابة دون أمرين: «دون جمهور ودون أساطير».. والكاتب يتوجه لكل الناس من خلال شخصيات أعماله.. فكما تتراءى الحرية الخالدة على الأفق من خلال التحرر التاريخي الذي يجتهد الكاتب في تتبعه؛ فإن كل عمل نثري هو مشروع إنساني يتجاوز حدوده الواقعية، ويمتد قليلاً قليلاً إلى ما لا نهاية على حد تعبير سارتر.
لذلك يرى سارتر، أن الكاتب إنما يكون مُلتزمًا: «حين ينقل لنفسه وللآخرين ذلك الالتزام، من حيز الشعور الغريزي الفطري الى حيز التفكير، والكاتب هو الوسيط الأعظم، ويتجلى التزامه في وساطته تلك»، أمرٌ آخر يراه سارتر، هو أن اختيار الكاتب لموضوعه يعني بشكل ما اختيار الجمهور الذي سيقرأ العمل.. لذلك، على الكاتب أن يكون واعياً بالاختلاف بينه وبين الفئة المستهدفة فيكون ضميرًا حيًّا يواجههم بحقيقتهم من الداخل والخارج.
يرى سارتر وفقًا لمؤلفه التاريخي «ما الأدب؟»، أن الأدب هو كل نص نثري.. وأن الشعر كالنحت والموسيقا والرسم لا يُمكن استخدامهم لفهم الحقيقة والتدليل عليها.. فالشعر، يخدم اللغة، أما النثر فإن اللغة هي التي تخدمه، كذلك، فإن الكاتب متى باشر بكتابة النص النثري فإنه لا محالة ملتزم بقضية ما.. وهذا الالتزام نابع من أثر العوامل الميتافزيقية والسياسية والاقتصادية في تكوين الشخص.. وهو هنا مُتأثر جدًا بالمذهب الوجودي، بحكم توجهه كفيلسوف وجودي، ومتأثر أيضًا بظاهراتية هوسرل.
ثم يجيب سارتر على سؤال لمن نكتب بأن الكاتب يختار جمهوره حين يختار الموضوع.. وأن أي نص نثري أدبي يرمي إلى الانسلاخ عن إشكاليات الوجود وقضايا الواقع إنما هو في جوهره يفتقر لأبسط مقومات العمل الأدبي ألا وهي الرغبة في إعلاء حرية الفرد.. ويصب ذاك غالبًا في مصلحة الطبقة البرجوازية، حسب سارتر، لأن الكاتب بذلك يُساهم في «تمزق الوعي.»
العدد 1183 – 26 -3 -2024