من العالم.. جغرافية المكان والشعر في الذات العربية

الملحق الثقافي – وفاء يونس:

الشعر صنعة العرب التي هي قبل أي صنعة أخرى، وهم من أعطى العالم أروع القصائد، والشعر ليس تهويمًا في الفضاء فقط إنما له جغرافيته التي أسموها الوقوف على الأطلال، الناقد عمر شبلي توقف عند هذه السمة في مجلة العربي ورأى أنه لا يترك العرب الشعر حتى تترك الإبلُ الرغاء:
الشعر عند العرب طبيعة، وليس اكتسابًا، وله علاقةً تكوينيةً بالنفس العربية وفطرتها، وهذا الحضور مرتبط بطبيعة الحياة العربية والجغرافية النفسية التي عكست تأثيرات الطبيعة الجغرافية المكانية التي نشأ فيها الشعر العربي، كان المكان الجغرافي قاسيًا حياتيًا على توفير عيشٍ خارجَ العوز المادي الذي خلق ظاهرةَ الغزو استجابة لمحاربة العَوَز، والذي كان الصعاليك أقوى كاشفي هذا العَوز، يقول الشنفرى:
أُديمُ مِطالَ الجوعِ حتى أميتَهُ
وأضربُ عنه الذكرَ صفحًا فأذهلُ
ومثله السليك بن السلكة الذي قالت أمُّه في رثائه «طاف يبغي نجوةً/ من هلاكٍ فهَلكْ/.. والغزو كان منتجَ القتل وتعبيرًا عنه، والقتل كان حاضرًا في الفرد والقبيلة على السواء، وكان الرثاء استجابة لهذا القتل، والرثاء هو اللغة الجوانية الناتجة عن تأثير جغرافية الخارج في جغرافية الداخل الإنساني التي تنتقل منها إلى الكلمة في الفم، وهو نقل الذات إلى الآخر مع الحفاظ على ذاتية الإحساس الناتج عن القتل.. وقد «سُئلَ أعرابيٌّ لماذا مراثيكم أجملُ شعركم؟ فقال: لأننا نقولها وقلوبنا محترقة».
إذا كانت جغرافية المكان الفقيرة في صحراء العرب من أسباب الغزو لسدِّ العَوَز، فإن القتل هو الناتج عمّن يخرج شاهرًا سيفه ليقتل الناس لكي لا يموت هو من الجوع، وكذلك كان فقر هذه الجغرافية المكانية أيضًا سببًا في خلق الظاهرة الطللية التي كانت من أعمق الأدلة على ولادة شعرٍ كانت فيه جغرافية المكان الطللي باعثًا وجدانيًا عميق الصلة بالشعر، لأنّ الظاهرة الطللية هي ظاهرة غربة وانفصال، حيث يصبح المكان عند الشاعر مُلْغيًا الغيابَ باستنطاق الطلل وسؤاله عن الذين رحلوا عنه، وكان الشاعر الذي يملك ذكرى عاطفية فيه يقف على مكان ميتِ وعلى ديارٍ «أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ» ويحاول أن يبعث فيها الحياة.. هنا المكان يصبح خالق الشعر، لأن الذي شغف قلبَ الشاعر ليس المفهوم الحجري للديار، «ولكن حبُّ من سكن الديارا». ومعروفًا كان سبب وجود الأطلال التي كانت دليلًا على وجود أناس تركوا ديارهم بحثًا عن أماكن أخرى ربما يجدون فيها ماءً وعشبًا وحياة.. لقد كان العوز ورمزية المكان الطللي دليليْن عميقيْن على تحويل إنسان هذه الجغرافية المكانية إلى شاعر، وهل يستطيع الإنسان أن يتخلص من تأثير المكان؟.
الغربة في الحضور الطللي والقتل الذي أوجدته ضرورات الحياة المادية خلقا إنسانًا منفعلًا باحثًا عن شيء مفقود لا يناله إلّا بالمغالبة والمكابدة وتوتر الأحاسيس واندفاعاتها في تكوين الشعر.. وهكذا كان القتل الناتج عن الغزو منتجًا شعر الرثاء وما فيه من أسى، وكان الطلل بوحشته وخلوّه من الأحباب باعثًا لشعر حزين، أبرزه الحبيبة والأهل وما تبقى من آثار تهيج ما سكن في وجدان الشاعر «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ».
غنائية الشعر
وكان الغناءُ الشجيّ في الحالين المعبِّر الأعمق عن الطبيعة الشعرية للرثاء، وكان الشعر غناءً أولًا.. وما زالت غنائيته أشد وسائل حضوره، وأكثر الغناء تأثيرًا هو الغناء البَكّاء.. ولذلك كان الغناء أشجى الشعر على النفس، وكان بإيقاعه الموسيقي يجعل البواعث أعلى وأشجى في الآخر، والغناء كان إيقاعًا منسجمًا مع طبيعة الجغرافية المكانية التي أنجزته، وازداد تأثير الغنائية في العمل الشعري بسبب ظاهرة الأميّة التي كانت مسيطرة على الواقع العربي آنذاك.. لقد كانت غنائية الشعر تجعل حفظه أيسر، لأن كتابته لم تكن متيسرة غالبًا، والغنائية الإيقاعية بطبيعتها يكون حفظ نتاجها أسهل بكثير من النثر.. وما زالت الغنائية من أهم مميزات الشعر حتى الآن، وقديمًا قال النقاد في البحتري: «أراد البحتري أن يشعر فغنّى».
وارتبط الشعر بالإيحاء، والإيحاء في جوهره هو أفصح لغة تخاطب بها الوجدان، وظاهرة الإيحاء الداخلية ربطته في عقلية الناس بشياطين عبقر التي توحي إلى الشاعر ما يبوح به، وكانت هذه الظاهرة تجعل الشاعر حالة لا تستغني عنها القبيلة أبدًا. وفي الحقيقة، وبسبب هذه الميزة للشعر، حصل عدم انسجام بين إيحائية الشعر وأهميته عند العرب وبين الوحي المقدس الذي جاءت به الرسالة الإسلامية، ولكن هذا التنافر لم يستمر بين الوحي المقدس وبين إيحائية الشعر، وظل الشعر محتلًّا النفسيةَ العربية، وباعتراف المقدس نفسه، وهذا وافر الحضور في تاريخنا الروحي والسياسي معًا.. وكان الإيحاء في الشعر يؤثر بعمق في السلوك الإنساني في المجتمع العربي، وكان يثير حربًا ويطفئ حربًا.
وأهم ما في الإيحاء الشعري هو أنه يخلق لغة في اللغة، وبهذا يتجرأ الشاعر على القاموس ليخلق قاموسه الخاص، وقتها يصبح الإيحاء قاموسًا لا تستطيع فيه حصر الكلمة في دلالة ثابتة، وربما عدم القدرة على سجن الكلمة في قاموسيتها هو سر الإبداع في العملية الشعرية، وهكذا تتحول لغة الشاعر إلى لغة حدسية هي أقرب إلى بروق داخلية تبدو وتتحجب في داخل الشاعر، وهذا ما أوصل الشعر أحيانًا كثيرة إلى ما يشبه السوريالية.. ولعل بروق هذه اللغة الحدسية وجدت ذاتها في شعر الشعراء الصوفيين الكبار، حيث اغتسلت الكلمة عندهم من قاموسيتها، وخلقت لذاتها قاموسها الحدسي، فالخمرة عندهم هي غير الخمرة ابنة العنب، والحبيب أبعد من مادية وجوده.. ولعل تقارب الشعر الحدسي عند الصوفيين نشأ من العشق الكامن في النص المقدس.
والشعر في حقيقته مشتق من الشعور ومن حوادث النفس الداخلية، ولذا يستمر تأثيره على المتلقي عاليًا، والتأثير يتسع ليشمل الفرد والمجتمع في آن، وربما كانت عواطف الشعر المتأججة من أقوى أسلحة حضوره.. إنّ قسوة عمر بن الخطاب على الحطيئة بسبب شعره الهجائي جعلته يزج به في السجن، وعاطفة الحطيئة نفسه أبكتْ عمر بن الخطاب حين سمع شعر الحطيئة ثانية، وهو يشرح له جوع أطفاله، وحاجتهم إليه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ
زُغْبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرٌ
ألقيتَ كاسبَهم في قعر مظلِمةٍ
فاغفرْ عليكَ سلام الله يا عمرُ
صاحب البيت
ولشدة حضور الشعر في الواقع العربي جعله في تلك العصور التاريخ الحقيقي للعرب، فأيامهم حفظها الشعر، وأخبارهم وعاداتهم وكل ما يتعلق بحياتهم تقرؤها في الشعر العربي باستفاضةٍ، وعلى الرغم من حدة الشعر وذاتيته فقد كان أصدق تعريف لعصره، فأنت اليوم إذا أردت أن تعرف طبيعة المجتمع العربي فاقرأ عمر بن أبي ربيعة، واقرأ جريرًا والأخطل والفرزدق، وبهذا تكون حاجتنا للشعر أعلى إذا أردنا قراءة روح العصر الذي كتب فيه.. وإذا أردت أن تقرأ التحولات الاجتماعية الكبرى التي شهدها العصر العباسي فاقرأ أبا نواس وغيره، وقتها سترى في أشعارهم الانقلاب الحضاري الذي شهده هذا العصر، كان تغيرًا في الشكل والمضمون معًا.
وحين جعل العرب الشعرَ تاريخًا لهم سكبوا فيه كلّ ما يريدون أن يكون فيهم من قيم ومواقف ومآثر، ولهذا كان الشاعر محترمًا في قومه، وكان لسان حالهم وإعلامهم، فلم يكن لهم سوى الشعر وسيلة لنشر فضائلهم.. وكان الشعر عند العرب بمنزلة حياتهم، فقد كان ينتشر بسرعة مذهلة وتحفظه القبائل للخير والشر في آن.. وهذا التمسك بالشعر كان أشبه بالسلاح في أيديهم، ولا نزال نذكر قول الأخطل التغلبي: «والقول ينفذُ ما لا تنفذ الإبرُ».
لقد كان الشعر جسدًا يسير مع العرب حيث ساروا، وكان هو أكثر الجلساء حضورًا في مواسمهم وأفراحهم وأتراحهم ومجالس أنسهم.. لم يكن الشعر عند العرب ضيفًا بل كان صاحب البيت.

العدد 1188 –7-5-2024

آخر الأخبار
إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها جرائم الكيان الإسرائيلي والعدالة الدولية مصادرة ١٠٠٠ دراجة نارية.. والجمارك تنفي تسليم قطع ناقصة للمصالح عليها إعادة هيكلة وصيغ تمويلية جديدة.. لجنة لمتابعة الحلول لتمويل المشروعات متناهية الصِغَر والصغيرة العقاد لـ"الثورة": تحسن في عبور المنتجات السورية عبر معبر نصيب إلى دول الخليج وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى