الملحق الثقافي – عبدالكريم العفيدلي:
عندما كنا نمر بالمكتبات أول كل شهر لنشتري الأعداد الجديدة من المطبوعات التي نتابعها، كانت هناك مجلات مغلفة توضع عليها عناوين مثيرة تشد انتباهنا بقوة وتزرع الفضول بداخلنا لتصفحها ولأننا لانستطيع تصفحها إلا بفتح الكيس نجبر على شرائها ونتجاهل المطبوعات المفضلة لدينا، حتى أننا ننزع الكيس بسرعة ونبدأ بالتصفح قبل أن نصل إلى البيت نكون قد اطلعنا على معظم صفحات المجلة، مع التصفح نكتشف أن الانبهار يخفت ويكاد يتلاشى عندما نكتشف أن المضمون ليس بقوة العنوان إنما كان الغرض منه إجبارنا على الشراء وهذا أسلوب من أساليب الدعاية بلا شك، وقد ينسحب هذا على الكتاب وخصوصًا الديوان الشعري الذي اختلف مع الكثيرين من أهل الصنعة في أن العنوان يجب أن لايكون بالضرورة شاعريًا بقدر ما يكون جاذباً وقائداً إلى مضمون الديوان، وفي هذا أعرض مثالاً لديوان شعري للشاعر والإعلامي السوري المعروف علي الدندح وهو ديوان ( برتقال أسود ) لقد اختلفت الدراسات النقدية حول رمزية العنوان وشبه اتفقت على محتواه الحداثي، مما اضطر الشاعر بنفسه أن يفسر العنوان الذي أثار الدهشة والفضول وفتح باب الاجتهادات في تفسيره رغم أن الشاعر ليس مطلوبًا منه أن يفسر ويشرح، برتقال أسود يقول عن هذا العنوان علي الدندح : «إن العنوان المثير من حيث اللون يعود إلى جذور الميثيولوجيا السورية السريانية التي تضع في يد الميت برتقالة تمنياً باستمرار حياة العائلة، وينسحب العنوان إلى العشرية التي عاشها كل سوري وصولاً إلى النصر».
الدندح الذي تعود جذوره إلى قرية يغلب عليها الطابع القبلي في أقصى شمال شرق سورية، يتشارك بالقرية مع السريان السوريين والذين لهم طقوسهم وعاداتهم فعندما كان طفلاً صغيرًا يذهب مع والدته في جنائز السريان الذين لهم طقوس خاصة في دفن الموتى، عندما يتوفى أحدهم يدفن في حجرة ويوضع في يده برتقالة طازجة إذا كانت وفاته في موسم الفاكهة أما إذا كانت الوفاة بغير الموسم توضع برتقالة مخزنة … بعد جفاف هذه البرتقالة يدخل إلى حجرة الدفن وتؤخذ هذه البرتقالة التي تحولت للون الأسود ويذهب بها إلى كاهن أو عرّاف لقراءة حال المتوفى بعد الموت من شقاء أو سعادة والتنبوء بمستقبل العائلة، الدندح الطفل الذي التقط هذه الالتقاطة صغيرًا كبر وكبرت معه هذه القصة وهو يظن أنها خاصة بالسريان ليجد أن كل سوري يحمل برتقالته بيده، وللمصادفة أن الصندوق الأسود بالطائرة لونه برتقالي وكأن الدندح أراد أن يقول إن هذه البرتقالة السوداء كصندوق الطائرة الأسود ….
بظل هذه السنوات العجاف التي مرت على الوطن أدرك الدندح أن كل سوري على هذه الأرض يحمل برتقالته بيده، وماهي إلا معاناته وآلامه وأوجاعه …
برتقال أسود عنوان صادم قادنا للبحث عميقًا في الميثولوجيا السورية وأسقطناه على الواقع المعاش فكان عنواناً استثنائياً بل يكاد العنوان بحد ذاته أن يكون ديوانًا منفصلاً عن الديوان الأساسي، وهذا بلاشك ذكاء يحسب له، وظف خبرته الإعلامية في خدمة نتاجه الشعري .
ومع هذا فتح العنوان حين صدور الديوان جدلاً نقديًا عارمًا اختلف به كثير من النقاد مع تفسير الدندح للعنوان ورأى بعضهم أن تفسير الشاعر لعنوانه هو مجرد تنظير أما برتقال أسود فتفتح بابًا واسعًا للتأويل بمعنى أنه لماذا لاتكون الميثولوجيا الجديدة بأسطورة السوري الآن وهو ذاهب للنصر ..
تعددت التفسيرات والتأويلات فيما يخص هذا العنوان الصادم وعقدت أكثر من جلسة نقدية تناولت الديوان وكان للعنوان نصيب كبير، إنما كما قالت العرب ورغم تفسير الدندح يبقى المعنى في قلب الشاعر.
ولهذا أقول إن العنوان هو المغناطيس الذي يجذب القارىء ويقوده للمحتوى بغض النظر كان شاعريًا أو أسلوبًا دعائيًا.
أن يستعين الكاتب بمن يقدم له نتاجه بقلم من سبقه بالتجربة وحرصه على أن يكون من الأسماء المهمة التي تركت بصمة في ساحة الأدب في هذا تزكية للكاتب وبطاقة عبور للساحة الثقافية وإجازة لتجربته.
فلذلك نرى كثيرًا من الكتاب والشعراء يحرصون على الأسماء المهمة لتقديم نتاجهم، لكن أكثر ما يؤلم عندما يكون هذا الاسم المهم أخذ شهرة لايستحقها ومن يقدم له يكون أهم منه وهنا يطرح التساؤل من يقدم من ؟
من خلال متابعتي للساحة الخليجية لسنوات طويلة سمعت قصصًا عن شعراء كبار كانوا يكتبون قصائد متفرقة أو دواوين كاملة لأسماء تحمل ألقابًا كبيرة، بقصد التكسب المادي والقرب منهم لتسيير مصالحهم الشخصية وهنا قد نعذر من يبيع شعره أو نتاجه تبعًا لظروفه وظاهرة بيع النتاج الأدبي بالخليج لاتزال منتشرة إنما بوتيرة أخف من مرحلة التسعينيات ويعود ذلك لظهور وسائل التواصل الاجتماعي والخشية من الفضائح، لذلك عمد البعض بشراء شاعر أو كاتب محدد مجرد أن يتوفى أو يحصل معه ظرف يعيقه عن الكتابة نجد هذا الشاعر أو الكاتب المدعي أعلن اعتزاله.
هذا بالخليج أما هنا في سورية فالمشهد مختلف ولكن ببشاعة، حكى لي أحد الشعراء المعروفين أن أحد الأسماء النقدية في سورية والذي أخذ شهرة لايستحقها تقدم إليه أحد الكتاب براوية وطلب تقديمه لها فأبى تقديمها حتى يدفع مبلغًا محددًا ثمنًا للتقديم ووضع اسمه على مقدمة الرواية، هنا وقفت بدهشة وعندما بحثت وراء الأمر تأكدت من صحته وعرفت أن هناك حالات كثيرة مشابهة، هنا أريد أن أجد عذرًا للكاتب الذي اضطر للدفع لهذا الاسم « الكبير « لكي يقدم له روايته ظنًا منه أن هذا التقديم جواز سفر لدخول أراضي الأدب، لكن ما العذر الذي أجده لمثل هذا المقدم الذي قبض المال وقدم على خلاف قناعاته ليرفد المكتبة بالغث وهو يدعي أنه ناقد كبير، بمعنى أن يأتي أحد وينتقد هذه الرواية لايجرؤ وقد قدمها هذا الاسم.
علما أن الكاتب صاحب النتاج قد يكون أهم بالقيمة من المقدم صاحب الاسم الكبير الفارغ المحتوى، وهذا يشبه لجنة تحكيم بعض المسابقات الشعرية التي وقف أمامها شعراء كبار كانوا أكبر حجمًا ممن يقيم نتاجه مما أدى لتعرض المحكمين لمواقف محرجة وقد شاهدنا كثيراً منها على الشاشات، نحن بحاجة ماسة لأصحاب الضمائر الذين يؤمنون بالمواهب ويسعون لإخراجها من وراء الكواليس وهذا بحد ذاته أمانة لايستطيع حملها إلا شرفاء الثقافة الذين يؤمنون بأن رفد الساحة بالمواهب الحقيقة هو من صلب بناء المشروع الثقافي العربي .
العدد 1188 –7-5-2024