الثورة – حوار هلال عون:
في حوار أجرته “الثورة” حول هوية الاقتصاد السوري خلال أكثر من ٦٠ عاماً مضت وحتى الآن.. وما هي الهوية الاقتصادية المناسبة لسورية بعد حرب دمّرت ما دمّرت من البنية التحتية للمؤسسات الإنتاجية والزراعية والصحية والتعليمية والخدمية.. الخ.
استعرض الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة حلب الدكتور حسن حزوري ثلاثة أشكال مرّ بها الاقتصاد السوري خلال تلك الفترة.
وقبيل الخوض في تلك الأشكال، لا بدّ من الإشارة إلى أن د. حزوري يرى أن ديناميكية أي اقتصاد تنبثق من هُويته، لأنها البيئة التي يتوخاها المجتمع لتموضع اقتصاده وتطوره، والهوية الاقتصادية مفهوم متغير، كما هي حالُ كلِّ شيء، حيث القانون الثابت في الاقتصاد هو التغير.
وهوية اقتصاد أي دولة، يجب أن تقوم على عنصر التميز، أو ما يطلق عليه في العلم الاقتصادي الميزة النسبية، وهي تندرج ضمن خصوصيات الهوية الاقتصادية التي تميز اقتصاد دولة عن اقتصاد دولة أخرى.
والتميز وضعية تمليها طبيعة ونوعية الموارد الاقتصادية المتاحة، والفضاء المحتمل أو الممكن الذي يعمل فيه الاقتصاد.
لمحة تاريخية..
يقول د. حزوري إن الدولة انتهجت في السابق نهجاً يُعَدُّ مزيجاً من الهويات الرخوة، من التخطيط المركزي في مرحلة ما سميت بالتحول الاشتراكي، في منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي (بعد ثورة 8 آذار)، ثم انتهجت “التعددية الاقتصادية” في منتصف عقد السبعينيات (بعد الحركة التصحيحية)، فقد تداخل العام بالخاص بالمشترك.
وبعد ذلك تمّ تبني ما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعي عام 2005، الذي وسع نطاق مفاعيل السوق على حساب التخطيط المركزي ونطاق القطاع الخاص على حساب القطاع العام، مع فقدان ما تبقى من دور للدولة كضامن اجتماعي لشرائح واسعة من طبقات المجتمع الفقيرة والمتوسطة لمصلحة قلة تستحوذ على معظم الدخل القومي.
ثم تم تبني مبادئ وقوانين الاقتصاد (السوق الحر) وفق ما نصت عليه المبادئ الاقتصادية في دستور 2012، ولو لم يذكر ذلك صراحة، وترافق هذا التحول بحالٍ واضحة من الخلل نتيجة ظروف الحرب، ووجود عامل الفساد، فأصبح اقتصاد سوق مشوهاً أدى إلى هيمنة سوق احتكار القلة على معظم السلع والخدمات الأساسية، بدل سيادة سوق المنافسة التامة وتكافؤ الفرص.
والسبب الرئيسي لما وصلنا إليه، بالإضافة إلى الحرب، بعض القرارات والسياسات الحكومية التي حولت الاقتصاد السوري من اقتصاد إنتاجي إلى اقتصاد ريعي نقدي، ما أدى إلى عدم التكامل بين السياسة النقدية والمالية، والتركيز على سياسة الجباية على حساب الرعاية، الأمر الذي ساهم في تدهور قيمة الناتج المحلي الإجمالي وانعكس على تدني مستوى التنمية الاقتصادية.
أثر النظام الضريبي..
ويرى د. حزوري أن النظام الضريبي الذي ترافق مع عدم أتمتة العمليات المالية رفع مستوى التسرب من الاقتصاد لمصلحة اقتصاد الظل والعمليات التجارية خارج إطار القانون.
كما أن انخفاض النفقات العامة كانت سبباً مباشراً لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وهذا أدى إلى التأثير سلباً على دوران العجلة الاقتصادية وإلى اتساع دائرة الفقر.
كما أن زيادة نسبة الإنفاق الاستهلاكي على حساب الإنفاق الاستثماري، أدت إلى تآكل الموازنة العامة، وإعاقة عمليات التنمية، ومع ضعف الإنتاج وانخفاض الإنفاق الاستثماري في الموازنات العامة بقيت الأسعار بارتفاع مطَّرد دون تدخل حقيقي فني يحل هذه المشكلة، وساهم ذلك بخلق معدلات عالية من التضخم.
الدعم الحكومي..
وعن سلبيات أشكال الدعم الحكومي المتبعة قال: إن السياسات المتبعة في الدعم الحكومي هي سبب من أسباب شل الحركة الاقتصادية على المدى القصير والمتوسط لأنها لا تذهب دائماً إلى مستحقيها، وقد أصبحت الضرورة ملحة للوصول إلى مقاربة مختلفة للاقتصاد تتضمن: تحديد دور الدولة في كل القطاعات، سواء في الزراعة أم الصناعة أم الطاقة أم الخدمات وغيرها، وشكل النظام الاقتصادي القادم وماهية دور القطاع الخاص في شكل وبنية هذا الاقتصاد.
أي هوية اقتصادية نريد؟..
يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً- برأي د. حزوري- هو أي هوية للاقتصاد السوري يمكن أن توفر له بيئة جديدة تمنحه محفزات تطورية في مرحلة التنمية وإعادة الإعمار وما بعدها؟ وما هي الأسس والمعايير التي ستقوم عليها هذه الهوية؟ وما الإستراتيجية التي يجب على الدولة انتهاجها لإيجاد هذه الهوية؟
وعن أسباب أهمية تحديد الهوية الاقتصادية يقول: إن تحديد الهوية سيؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة للدولة والمتمثلة في إعادة الإعمار والتنمية المستدامة والاستقرار الاقتصادي، لأنَّ للهوية الاقتصادية دوراً هاماً في تحديد توجُّه المجتمع، وتحديد خياراته لمناحي الأنشطة المختلفة من سياسية واقتصادية واجتماعية، بما يؤدي إلى تحديد المسار العام للدولة، وتوحيد القوانين المنظمة للهوية الاقتصادية.
ونقطة الانطلاق في تحديد الهوية الاقتصادية هي تحديد الموارد الاقتصادية وميزات الاقتصاد السوري التفاضلية التي قد تجعل سورية بلداً (زراعياً– صناعياً) أو خدمياً في مجال السياحة أو التجارة الخارجية.. الخ.
ما هو دور الدولة الاقتصادي؟..
ويرى د. حزوري أنه قبل الحديث عن التشاركية، ودور قطاع الأعمال، ودور المنظمات والاتحادات المهنية والأهلية من غرف تجارة وصناعة وزراعة وسياحة..الخ، علينا العودة إلى المبادئ الاقتصادية في الدستور السوري لعام 2012، وبناء عليها، نحدد ماذا نريد من الدولة ممثلة بالحكومة.
المبادئ الاقتصادية
وعن المبادئ الاقتصادية- يرى أن الاقتصاد الوطني يقوم على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى المعيشة للفرد وتوفير فرص العمل وأن السياسة الاقتصادية تهدف إلى تلبية الحاجات السياسية عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وأن على الدولة أن تكفل حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والاستثمار وتمنع الاحتكار.
معطيات الاقتصاد بواقعه الحالي
ويتساءل د. حزوري عما إذا كانت الدولة تستطيع إعادة البناء ومعالجة معطيات الاقتصاد وفق شكلها الحالي في ظل واقع أنتجته الحرب وسوء الإدارة، حيث بنى تحتية مدمرة كلياً أو جزئياً أو متضررة- ضعف توفر حوامل الطاقة ( مازوت، فيول، كهرباء)، أو عدم تلاؤم العرض مع الطلب، تضخم نقدي، وركود اقتصادي مترافق مع عدم استقرار سعر الصرف، عدم توفر قدرات مالية لدى الدولة، حيث يتم التمويل بالعجز، عدم توفر موارد مالية كافية لدى الدولة لإعادة إعمار البنى التحتية، عدم توفر الاستثمارات الأجنبية في الوقت الراهن.
ويطرح سؤالاً حول هوية الاقتصاد المغضلة: هل نريد “دولة متدخلة” أم نحن بحاجة للانتقال إلى شكل آخر من أشكال الدولة “الدولة الناظمة”، والمقصود بالدولة الناظمة أن تأخذ الحكومة دور المحفز، والمنظم للنشاط الاقتصادي والمراقب لصحة تنفيذ السياسة الاقتصادية.
شكل تدخّل الدولة في الاقتصاد..
ويحدد شكل تدخّل الدولة في الاقتصاد مسقبلاً- من وجهة نظره – كما يلي:
أولاً- التحفيز: هناك قطاعات أساسية للحياة الاقتصادية: (زراعية، صناعية، خدمية وتجارية)، هذه القطاعات تحتاج إلى استثمارات كبيرة لتنشيطها وتوفير الطاقة والبنى التحتية لها، دور الدولة هنا: تحديد هذه القطاعات ومنح المحفزات للاستثمار بها من قبل القطاع الخاص.
ثانياً- التنظيم: بعد تحديد المجالات التي تحتاج إلى تحفيز لاستثمارها، تضع الحكومة الأطر التنظيمية لهذه الاستثمارات بحيث تمنع الاحتكار وتسمح بزيادة الدخل الوطني ورفع سوية الحياة للمواطنين.
فالتنظيم يتطلب أن يكون الاستثمار في القطاعات المحفزة بشكل شركات أموال، محدودة المسؤولية أو مساهمة خاصة مغلقة أو عامة، وقد يتطلب وجود شريك استراتيجي أو لا، حسب الضرورة، ويفضل أن تعطى الأولوية للاكتتاب والتخصيص في حالة الشركات المساهمة العامة لصغار المساهمين.
والمعلوم أن القطاع الخاص يتمتع بمرونة كبيرة قادر على مواجهة العقوبات الاقتصادية، أكثر من الحكومة، وهذا يتطلب أن تقوم بتنظيم النشاطات الأكثر أهمية، ومحاولة تطبيق قانون التشاركية وإعادة النظر فيه ليشمل كل القطاعات وكل أشكال الاستثمار وكل أشكال الشركات، على غرار قطاع النفط، وإصدار تشريعات مكملة له، وإيجاد هيئات ناظمة لكل قطاع على غرار قطاع الاتصالات.. بعض الأمثلة:
– في القطاع المالي: نحتاج مثلاً لإصدار قانون التوريق وقانون التأجير التمويلي.
– قطاع النقل الداخلي في المدن، إيجاد هيئة ناظمة لقطاع النقل الداخلي (المشترك) وتشجيع قيام شركات مساهمة بين الدولة والقطاع الخاص، بحيث تكون هناك شركة واحدة في كل مدينة كبرى.
– قطاع الطاقة وخاصة الكهرباء والاعتماد على الطاقات المتجددة ( الطاقة الشمسية)
– معالجة النفايات عبر شركات مشتركة بين الدولة (مجالس المدن والقطاع الخاص)، بعد أن أصبحت النفايات مصدر دخل ومنتج للطاقة وبنفس الوقت هي حماية بيئية.
– وواجب الدولة أيضاً السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا يقتضي إعادة النظر بالتشريع الضريبي، بحيث يخضع جميع المواطنين لضريبة دخل موحدة، سواء أكان الدخل من ربح تجاري أم مهنة فكرية أم أجر.
– وتفرض هذه الضريبة بناء على تصريح ضريبي يقدم خلال الربع الأول من بداية كل سنة، وتفرض عقوبات قاسية بحق أي تصريح مخالف للواقع ويتضمن معلومات كاذبة.
ثالثاً- المراقبة: دور الدولة يكون من خلال المراقبة وتطبيق التشريعات.