عبد السّلام عيون السّود.. شاعر الأحاسيس النقية

الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
إنَّ الشاعر عبد السلام عيون السود شرقيُّ الملامح، يحمل في نفسه أحاسيس نقية وطموحات أدبية، إذ ترك إرثاً شعرياً على قلته وضآلته يكفي لتخليد اسمه في عداد المبدعين المرموقين، أتى إرثه انعكاساً صادقاً لحياة مثقلة بهموم المرض وشظف العيش رغم قصر حياته.
ولد الشاعر عبدالسلام عيون السود سنة 1922 في حمص، ونشأ بين حاراتها العتيقة، وتلقى دراسته الابتدائية فيها، لكنه لم يكمل الثانوية بسبب عمله كموظف في الإنتاج الزراعي، ثم في وزارة المالية.
أصيب بمرض التوسع الإكليلي في القلب، ولم يكتشف الأطباء مرضه إلا في مراحله الأخيرة، ماجعل علاجه أمراً متعذراً، وأدى به مرض لازمه ثلاث سنوات قبل وفاته إلى الشعور باليأس فقام بإحراق مخطوطة ديوانه بعنوان «مع الريح» وتوفى في سنة 1954ولم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره.
بدأ بنظم الشعر التقليدي في العشرين من عمره، ثم ابتكر بعد سنوات أسلوبه الشعري الخاص، يغلب على أدبه التشاؤم والسوداوية، جمع أصدقاؤه الثلاثة وصفي قرنفلي ونصوح الفاخوري وعبد القادر جنيدي أدبه في كتاب بعنوان: «آثار عبد السلام عيون السود الشعرية والنثرية» الصادر في 1969 عن وزارة الثقافة السورية، أو ما بقي منه عام 1968.
تمتاز لغته بأنَّها سلسة متدفقة، وصوره حية تصدر عن ذاته بلا تكلف، فتعكس تجربته الشخصية من آلام ومعاناة وإحساس عميق بالحزن والتشاؤم؛ كان أسلوبه أقرب إلى الرومانسيين في تصوره، نفَسه قصير وبعض شعره مقطوعات، كما تظهر في عباراته خبرته بالتراث الشعري العربي، وينطق معجمه الشعري بالصدق والصفاء.
إنّ عمر قصيدة الشاعر عيون السود الفعلي لايتجاوز 12 سنة، وله مجموعة واحدة قام بإحراقها، كما عمد في واحدة من نوبات الاحتقان الحادّة شبه العصابية، إلى إحراق قصائده ومقالاته. أمَّا السبب الثاني تجلَّى بوعيه الأدبي والجمالي، المبكر بدوره، جعله يضيق ذرعاً بغالبية ما يُنشر من شعر (في سورية ولبنان خصوصاً)، فجنح إلى الإقلال وما يشبه «النمنمة» القاسية في معظم ما يكتب من نصوص؛ وتُحفظ له عبارة تقييم مفتاحية، مفادها: «لسنا أقلّ موهبة وحمّى من بودلير وفيرلين ورامبو؛ ولكنَّنا مع الأسف لم نتعرّض لما تعرّضوا له من تجارب، ولم نسعد بما سعدوا به من حضارة تتجاوب أصداؤها ثرّة ملهمة حتى في أضيق الغرف».
ظل عيون السود أكثر الشعراء في حمص وفياً للقصيدة ذات الشطرين، وسعى في الآن ذاته إلى التخفيف ما أمكن من أثقال العروض وأحمال القافية؛ وللأمر دلالة إضافية فكان عيون السود يبالغ كثيراً باستخدام خيط درامي من خلال حوار داخلي بينه وبين الآخر، وثمة الكثير من المغزى في أنّه استند إلى عناصر جمالية وفلسفية، لإنجاز غرضين كبيرين: الأول تحرير اللغة الشعرية السورية تحديداً من إفراط البلاغة الكلاسيكية وقيودها؛ من دون تفريط بالجزالة والفصاحة والمعجم الخصب؛ وإطلاق مدرسة تعددية، رومانسية/ رمزية/ التزامية، مثّلت واحدة من أبرز تحديات الشعر السوري في أواسط القرن العشرين، بالمقارنة مع مدارس أخرى ناجزة احتكرتها تيارات قصيدة الغزل والقصيدة الوطنية والشعر الوصفي.
كما وجد في نظم الشعر عزاء له، وتنفيساً عن همومه وآلامه، وجراح قلبه الدامية ويأسه وتعبه وشقائه، وكثيراً ما كان يُردِّد في قصائده عبارات الإعياء والتعب والانطفاء والتيه والضياع والانحدار والموت واللين والصقيع والانكسار من خلال الروي المكسور كي يدعو القارئ إلى التأمل وإدراك كمِّ الحالة البائسة المرافقة للشعور بالانقباض والحزن والتعاسة في حياته:
أنا يا أخت متعب وسلي الريح..
سليها تجبك عن إعيائي
كيف أحيا يا أخت.. أدركني الليل
ودبّ الصقيع في أعضائي؟
أنا يا أخت متعب.. متعب
مثلك في حيرة وطول التواء
نلتقي في الضياع.. في التيه..
في الآهات تترى وفي أكف الهواء
وانكسار الأحلام في اللفتة الأولى.
ونفخ الحياة للأشلاء
كان الشاعر عبد السلام رغم ما يعاني من هموم الحياة وشظف العيش، مُعتدَّاً بنفسه واثقاً من قدرته على العطاء، وكان فيما يروي بعض أصدقائه جاداً على الأغلب لا يستريح للمزاح والعبث. عاش فقيراً كادحاً يُكافح في سبيل لقمة البيت ولتأمين الدواء والعلاج حزناً مستمراً وآلاماً لا تنتهي وقلقاً دائماً وكفاحاً شاقاً، وتشاؤماً أسودا تتجاذبه ظروف الواقع القاسية من جهة وما يعتلج في نفسه من مشاعر وانفعالات نبيلة صافية وما تمتلكه روحه من الإمكانات الإبداعية الثرة من جهة أخرى… ويضيع بين الإحباط والتطلع، وينشغل عن تفجير موهبته وصقل ملكته وتأريث ومضاته بمشاغل العمل وأعباء الأسرة وهموم المرض.
لم يكن أخرس الهيئة كان يعطي الانطباع من النظرة الأولى بأنه إنسان حسَّاس، وأنه حزين… إن لم يكن شقياً، يضحك أحياناً ويتبسط في حديث إيحائي مرح؛ لكن هذا لم يكن يمحو أسى عينيه وشموخ جبهته حتى ليخيل إليك أنه مستغرق ومنتظر.
ولولا صلابة ذقنه العريضة تحت فمه الطفولي وأثر ذلك الجرح الطويل في وجهه الأيسر لخلت طلعته من الشدة تماماً. ملامح غير قابلة للتعبير الحاد، ولا لأي تصرف صارخ. وإذا بدرت منه بوادر عنف، ولمرات معدودة على مدى العمر، فالحزن الدفين غير المتفجر كفيل بأن يلفَّ ظلاله وآثاره. كان ذا مشية هادئة، لكنها ثقيلة بعض الشيء. ولو كان أكثر نحولاً بقامته المعتدلة الطول لظننته، وبومضة سريعة، أنه طيف آت نحوك لا يصدم العين بل يلفتها بهدوء. لا تثير رؤيته أي اعتراض في داخلك ويمكن له أن يجذبك إذا صبرت معه على المسافة الزمنية القصيرة.
كانت المقاهي الشعبية الكثيرة في حمص أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات أشبه بمنتديات أدبية لمثقفي المدينة وشعرائها وكتابها، وكان من أشهر تلك المقاهي وأحفلها بالمرتادين والزبائن مقهى «الروضة» أو «الدبلان» و»المنظر الجميل» و»الفرح»، وكان الأدباء يغشونها وقت الأصيل بعد أن يكونوا قد نفضوا أياديهم من أعمالهم وسعيهم في سبيل الرزق ولقمة العيش، ثمَّ يتحلقون حلقات حول عدة مناضد يمزحون ويجدّون، يتحاورون ويتخاصمون في شؤون الأدب والشعر والفن والسياسة والاجتماع، وعبد السلام عيون السود معهم إنسانٌ يُحبُّ مخالطة الناس ومحاورتهم لتبادل الأفكار والآراء وعلى الأخص فئة المثقفين.
                          

العدد 1196 –9 -7-2024     

آخر الأخبار
تفعيل خدمة التنظير في مستشفى طرطوس الوطني طرطوس.. صيانة وإزالة إشغالات مخالفة ومتابعة الخدمات بيان خاص لحفظ الأمن في بصرى الشام سفير فلسطين لدى سوريا: عباس يزور دمشق غدا ويلتقي الشرع تأهيل المستشفى الجامعي في حماة درعا.. مكافحة حشرة "السونة" حمص.. تعزيز دور لجان الأحياء في خدمة أحيائهم "فني صيانة" يوفر 10 ملايين ليرة على مستشفى جاسم الوطني جاهزية صحة القنيطرة لحملة تعزيز اللقاح الروتيني للأطفال فيدان: الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تزعزع الاستقرار الإقليمي الجنائية الدولية" تطالب المجر بتقديم توضيح حول فشلها باعتقال نتنياهو قبول طلبات التقدم إلى مفاضلة خريجي الكليات الطبية مؤشر الدولار يتذبذب.. وأسعار الذهب تحلق فوق المليون ليرة الكويت: سوريا تشهد تطورات إيجابية.. و"التعاون الخليجي" إلى جانبها مع انتصار سوريا معاني الجلاء تتجد الإمارات تستأنف رحلاتها الجوية إلى سوريا بعد زيارة الشرع لأبو ظبي الاحتلال يواصل مجازره في غزة.. ويصعد عدوانه على الضفة مصر والكويت تدينان الاعتداءات الإسرائيلية وتؤكدان أهمية الحفاظ على وحدة سوريا بعد أنباء عن تقليص القوات الأميركية في سوريا..البنتاغون ينفي إصلاح محطة ضخ الصرف الصحي بمدينة الحارة