د. محمد الحوراني:
بعدَ أكثرَ من ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً من دَعْمِها أشرسَ حربٍ إرهابية شُنَّتْ على سورية، وتمريرِها السِّلاحَ والمُتطرّفينَ القتلةَ من أنحاء العالم كافّةً إلى أراضي الجمهوريّة العربيّة السُّوريّة، بعدَ أنْ نَهَبَتْ ثرواتِها وخيراتِها ومصانعَها، أدركت الحكومةُ التركية أنّها لم ولن تتمكّنَ من تقويضِ أركانِ الدولة الوطنية السورية، كما أنّها لن تنجحَ في كَسْرِ إرادةِ الشعب السوريّ الذي أبدعَ في الصبر والمُقاوَمة والتّمسُّك بأرضه والدفاع عنها، فكانَ لا بُدّ من استدارةٍ تُركيّة، رُبّما تكونُ صادقةً هذه المرّة، والحقيقةُ أنّ هذه الاستدارةَ ما كانتْ لتتمَّ لولا ثباتُ الجيشِ العربيِّ السُّوريِّ وتضحياتُهُ، ولولا الإصرارُ الشعبيُّ على مُناهضةِ الاحتلالَينِ التُّركيّ والأميركيّ وأدواتهما لجُزءٍ من الأراضي السورية، إضافةً إلى جُهودٍ رُوسيّةٍ إيرانيّةٍ عراقيّةٍ كبيرة في هذا المجال، بعدَ أنْ غدا الخطرُ الإرهابيُّ مُهدِّداً مُعظمَ الدُّوَل الإقليميّة والعربية والعالمية.
ولهذا كانت تصريحاتُ الرئيس التُّركيّ “رجب طيّب أردوغان” مُختلفةً هذه المرّةَ عن سابقاتها، ولا سيّما في المُدّةِ التي سبقت الانتخاباتِ التركيّةَ أواخرَ عام ٢٠٢٢ وعام ٢٠٢٣، ذلكَ أنّ التَّذبْذُبَ في المواقف، والبراغماتيّةَ في التصريحات، كانا الأساسَ في مُعظَمِ التصريحات التركيّة حينَئِذٍ، أمّا اليوم فإنّ ثمّةَ ما يدعو إلى التفاؤل لجهةِ وَضْعِ حدٍّ للاحتلال التُّركيّ لجُزءٍ من الأراضي السورية ودَعْم التنظيمات الإرهابيّة في الشمال والشمال الشرقيّ السُّوريّ وغيرهما من الأراضي السُّوريّة التي احتلَّها التُّركيُّ وأدواتُهُ الإرهابيّة.
ويبدُو أنّ القيادةَ السُّوريّةَ اليومَ غيرُ مُتَعجِّلةٍ على الإطلاق في تحقيق هذه المُصالحةِ معَ التُّركيِّ إلّا وَفْقَ شُروطِها، وبعدَ الاستجابةِ إلى مطالبِها، وهي المطالبُ المُحِقَّةُ المُتعلّقةُ بالانسحابِ من الأراضي السُّوريّة المُحتلّة، ورَفْعِ الغطاءِ عن التنظيمات الإرهابيّة والتكفيريّة التي ما كانَ لها أن تُسيطرَ على بعض الأراضي السُّوريّة، وتتحكّمَ فيها لولا الدَّعمُ غيرُ المحدودِ الذي يُقدِّمُهُ النِّظامُ التُّركيُّ إليها، وهو ما جعلَ منها قُوّةً عسكريّةً كبيرةً من شأنها أنْ تُشكِّلَ خطَراً على الدولة التُّركيّةِ عَيْنِها، وأنْ تُعمّقَ حالةَ الفسادِ فيها بسيطرتها على المعابرِ والمنافذِ الحُدوديّةِ وتَحكُّمِها في الثَّرَواتِ والخيراتِ السُّوريّةِ التي حُرِمَ منها الشّعبُ السُّوريّ، واستفادَ منها الصهاينةُ في حربهم على الأشقّاءِ الفلسطينيّين.
وإذا كانَ بعضُهمْ يتوقّعُ أنْ تَشْهَدَ الأسابيعُ المُقبِلَةُ لِقاءً أو لقاءاتٍ سُوريّةً تُركيّة، فإنّ هذه اللقاءاتِ لن تكونَ إلّا وَفْقَ الشُّروطِ السُّوريّة، سواء لجهةِ المكان، أم الزمان، أم الموضوعات، التي ستُناقَشُ في تلك اللقاءات المُستقبليّة، وإذا كانَ التُّركيُّ يستعجلُ اللقاءاتِ بسببِ الضُّغوطات الداخليّة والمُشكلات التي يُعاني منها نتيجةَ دَعْمِهِ الإرهابَ في سورية وتهجير عددٍ كبير من أبنائها، فإنّهُ لا بُدَّ مِنَ القولِ إنّ العددَ الكبيرَ من اللاجئينَ السُّوريّينَ في تركيا، كانَ في منزلةِ وسيلةٍ للارتزاقِ من السُّلُطاتِ التُّركيّة التي لَعِبَتْ كثيراً بمُستقبلِ المنطقة، حتّى غدَت الفوضى مُهدِّدةً للشَّعْبِ التُّركيّ ودولتِهِ بسببِ السِّياساتِ الخاطئةِ والمُتهوّرةِ لنظامِهِ السياسيِّ وتدخُّلاتِهِ السافرةِ في شؤونِ كثيرٍ من الدُّولِ العربيّة، وفي مُقدَّمَتِها سُورية.
لقد آنَ الأوانُ لوَضْعِ حدٍّ لنزيفِ الشّعبِ السُّوريِّ الذي عانى ما عاناهُ نتيجةَ الخيانةِ والظُّلْمِ والاعتداءِ على أرضِهِ وانتهاكِ حُقوقِه، وهو نزيفٌ لن يتوقّفَ إلّا باستعادةِ الحُقوقِ والأراضي المُغْتَصَبَةِ كامِلَةً، والقضاءِ على التنظيماتِ الإرهابيّةِ كُلِّها، أو إخراجِها من الأراضي السُّورية جميعِها، إضافةً إلى الإسهامِ بفاعليةٍ في بناءِ ما دمّرَتْهُ الحربُ والإرهابُ في أثناءِ الفترة الماضية.
أمّا أنْ يُتَـحَدَّثَ عن حُدودٍ سُوريّةٍ تُركيّةٍ آمِنَةٍ دُونَ القضاءِ على الإرهاب وتجفيفِ منابعِه واستئصالِ أدواتِه، فهو حديثٌ لا معنى لهُ، وسيكونُ مصيرُهُ مصيرَ ما سبَقَهُ مِنْ مُحاولاتِ إصلاحِ العلاقاتِ وترميمها.
بقيَ أن نقولَ إنَّ الأسابيعَ المُقبلةَ وَحْدَها هي التي تمتلكُ الإجابةَ عن هذه الأسئلة، وهي الأسابيعُ التي من شأنِها أن تُثبِتَ صحّةَ كلامِ الرئيسِ التُّركيّ في هذا المجال واحترامه مُبادرات الإصلاح، وآخرُها المبادرةُ العراقية، ولا سيّما بعدَ حديثِهِ عن تكليفِ وزير خارجيّتِهِ بالإعدادِ لهذا الأمْر.